يظل الإنسان يبحث عن الوجود، إما عن قصد أو غير قصد، الناتج عن التأمل في الكون وقوانينه المدركة في حدود التفكير البشري. وفي هذا السياق يؤكد معلم البشرية -أرسطو- على أن “ما يدفع الناس في الأصل إلى البحث عن الجواب، هو الدهشة” ويزكي هذا المنحى العلمي الفيلسوف شوبنهاور بقوله: “الدهشة هي ثدي المعرفة ومنبعها الدفاق” في هذا السياق وجب التمييز بين دهشة المفكر، ودهشة الفيلسوف، فدهشة هذا الأخير هي توتر نفسي وذهني تجاه كل مناحي الحياة بما فيها البديهيات، بينما دهشة المفكر بشكل عام والمفكر الجغرافي بشكل خاص، هي دهشة ناتجة عن تفاعل الإنسان مع الطبيعة؛ تفاعل مدرك، ممزوج بالقلق المعرفي ومفعم بالألم. من هذا المنطلق، جاءت الدهشة والحيرة حول فكرة العدالة الإلهية والحتمية الجغرافية: أي تقاطعات؟ أية علاقة؟ لإزالة هذه الدهشة، نخلص إلى ما يلي:
إن المتأمل في الكون بشكل عام، والأرض بشكل خاص، يرى أن الكون تحكمه قوانين طبيعية دقيقة، تدل على أن شيئا خفيا وراءها، لا تدرك في غالب الأحيان إلا بلغة الكون، فالادعاء عكس هذا، أرى أنه ادعاء ساقط أصلا وفصلا. إذن لطالما أن المكونات الجغرافية (الحية، اللاإحيائية) من ضمن هذا الكون المتأمل فيه سلفا، يبقى ربطها بقوانين الطبيعة، جائزا.
تعلب العوامل الجغرافية (الماء، التربة، المناخ، الإنسان، الحيوان) دورا كبيرا في صناعة الفكر البشري، هذا الطرح لا ينفي الطبيعة الفطرية للإنسان. إذ ما دامت الملاحظة الجيدة تغنينا عن كل الفرضيات، يمكن القول إن سطح الأرض يتشكل وفق بنية معقدة وهي عقدة تؤكد قوة قانون الطبيعة، فهذه البنية كما أسلفنا الذكر؛ تمزج بين المكونات الطبيعية والبشرية، فتطابق توزيع الإنسان مع عناصر الطبيعة، هو تطابق متباين ومختلف، هنا تبدأ الدهشة الفلسفية والحيرة العلمية، وهنا نطرح التساؤل؛ هل الإنسان الذي تطابق مع الجبل، هو نفسه من تطابق مع السهل؟ هل الإنسان الذي تطابق مع المناخ الحار، هو نفسه من تطابق مع المناخ البارد؟ هل الإنسان الذي تطابق مع مجال الديانة السماوية، هو نفسه من تطابق مع مجال الديانة الوضعية؟
هذا الاختلاف طبعا لم يختره الإنسان لنفسه، بل تختاره الجغرافيا، فإلى أي حد كانت الجغرافيا رحمية بالعديد من المجتمعات عبر التاريخ؟ وهنا نطرق باب العدالة الإلهية ونطرح التساؤل؛ هل المحاسبة الإلهية لإنسان الصحراء، هي نفسها لإنسان المناطق الطبيعية الخضراء؟ طبعا لا، لماذا؟ لأن الحساب يتم عن طريق الإنصاف، لكن ما يجب التركيز عليه، هو أن هذا التباين في المكونات الجغرافية، يجعل الإنسان طريح بيئته الطبيعية والاجتماعية… فالحتم الطبيعي سجله التاريخ، ولا يمكن أن ننكر هذا وإلا نكون نعبر خارج الموضوعية. نتيه ونرجع إلى صياغة مثال: أمين من اليمن (منطقة حارة) يستيقظ دائما لصلاة الفجر، بينما أحمد من كندا (منطقة باردة) لا يستيقظ لصلاة الفجر، بفعل الانخفاض الشديد في درجة الحرارة. فهل يعد قانون الجغرافيا أقوى من عدالة الإله؟
مثال ثان؛ عادل من النيجر (دولة فقيرة) لم يقرأ القرآن كثيرا، لأنه لم/لا يتوفر على نسخة ورقية من القرآن الكريم، لكن هنري من هولندا يقرأ القران كل صباح، لأنه يتوفر على هاتف ذكي يحمل نسخة رقمية من القرآن الكريم، فما ذنب عادل إذن؟ ماذا فعل عادل الحتم الطبيعي؟ فهل تتساوى قراءة آية واحدة عند هنري، مع قراءة آية واحدة عند عادل؟ صمويل راعي الغنم (صيني)، تاه في إحدى الأيام بين قعور الأودية، لم يصلٍّ صلاة الظهر والعصر في وقتهما، وذلك بسبب عدم معرفة اتجاه القبلة. بينما جون راعي الغنم في النرويج حيث الضيعات والسهول، صلى الصلوات في وقتها، وهو على دراية باتجاه موقع القبلة.
يعد أداء مناسك الحج من أركان الإسلام (لمن استطاع إليه سبيلا)، ومنه نصغ مثالا: نبيل رجل فقير من جدة (السعودية) أدى مناسك الحج مرتين في حياته، بينما عبدالسلام من تيزنيت (المغرب) لم يؤدِّ مناسك الحج، وذلك بسبب فقره (المادي-النقدي)؛ الذي لم يؤهله لأداء مناسك الحج المبارك، رغم أنه كان من أحلامه. والرجل الثالث من هذا المثال؛ السيد أنطوان من كندا رغم بعده عن السعودية، يؤدي مناسك الحج مرات عديدة. فهل تتساوى حسنات نبيل وعبد السلام وأنطوان التي جمعتهم الديانة الإسلامية، وفرقتهم الجغرافيا؟ وإلى مثال آخر في جغرافية التاريخ: إبراهيم من مدينة طاطا يفطر في شهر رمضان المبارك، على سبع ثمرات (وفرة شجرة النخيل) وله فيه أجر عظيم، بينما العربي في مدينة طنجة لا يفطر على الثمر لأن ليست لديه القدرة الشرائية لشرائه. فهل تتساوى حسنات إبراهيم مع حسنات العربي؟!
وصفوة القول، إن قانون الجغرافيا، هو جزء من قانون الطبيعية، وقانون الطبيعية يخضع لعدالة الإله جل جلاله، اتساقا مع قوله تعالى في سورة الزلزلة الآية 7و 8 {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} مضيفا عز وجل في سورة النساء الآية 124 {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} صدق الله العظيم.
فالفريضة والنافلة أرى أنهما تختلفان باختلاف الظروف الجغرافية والزمانية (جغرافية التاريخ). ومن هذا كله، فإن قانون الجغرافيا يحاول في حدود الإدراك البشري، أن يوضح عدالة الإله جل جلاله.