لكل من دهره ما ارتضى..

مائة وخمسون يوما؛ خمسة أشهر داميات، ويسري الزمن في العروق بسرعات متباينة، فالزمن ليس كونيا ولا عالمي المقياس، الزمن روح شفافة يقظة، وقد يكون من لحم ودم، ذا نبض وخفق ينظم سير الحياة، ومن ثم يتخذ ألوانا تصطبغ بواقع الحال، وتنعكس على لحظاته المآلات كما مبادئ أهله والقيم. فبين زمن يشاد على عين الله وآخر يتسرب بين الأنامل أو يتمطى متكاسلا بين الدروب تنبت الفوارق وتشب، وتتعدد المعاني.. تولد البشرية فتتنفس، وتحيا على شبر أرض محاصر فتسمو وتتعملق، وقد تخنس فيما ينبسط دونه فسيحا أو يفترسها الردى.. ذلك أن الأيام المائة بأرض تصنع زمنها كألف سنة مما نعد، وأن لكل من دهره ما ارتضى.

مائة وخمسون يوما؛ اللحظة فيهن ضبح العاديات ونقعها، قصف الشهب الراجمات ورصَدها، برق المعصرات الصاعق وهطلها، وتكبيرات كالهزيم وعدا ووعيدا.. الزفرة فيهن غضبة مارد شاء أن يتمرد، والوثبة فيهن فصل القول، عزم على الزيف أن يتبدد، طوفان كاسح كاشف ماحق، فعله الفصل، وقوله مهند نضا عنه البلاغة، كسر غمده ومضى.. ثم طوت اللغة في محراب التعلم ركبتها، آن لها أن تتأدب، أن تضبب قواميسها والأقلام وتصغي لفعل الفِدا، فالقول ما صنعته الأنفاق، والمفهوم ما أبصرته الأحداق، واللغو هذر العدا.

مقالات مرتبطة

خمسة أشهر، مائة وخمسون يوما، ولم يخجل العالم البئيس ولم يرعو… خمسة أشهر ليلهن نهار من حمم، ونهارهن قطع من ثوب الموت مظلم، وقد أبرز الموت وجوهه كلها، فالموت اليوم يُسمع حقا ويُرى، يُعرف حسيسه إذ يجوس خلال الديار وبين الخيام، يتبدى في صفاقة مختلة، يفرد كيسه على الكون الفسيح؛ موت من قصف، من قنص، من حصار، من ظمإ، من جوع وطوى، موت في قوافل اللجوء، في طابور الماء والطحين موت من وصول المساعدات، من منع المستعدات، وداخل الحضانات، ومخارج الحضانات، داخل الملاجئ خارج الملاجئ، موت نازل من السماء، من اليمين والشمال… وموت من الصمت ومن البشم، من الاستغراق في النوم وفي العدم فمن يبز الموت؟ من يناجزه فيرديه؟ من يقتص لجراحنا فيكلمه أو يصميه؟ وقد عربد الموت فخنست الأصوات إلا قافزا من جذل يهتف أن قد “ولعت”، وعاصب بطنه، ينبري للموت في كامل أناقته، قد علم جبن الموت، فأرهبه. وتطلع الموت حوله، يتفقد جنده، يعد ضحاياه كي يبشر حزبه، فألفاه وحيدا كما شاء له ربه، أسير الحياة قد كبله قيده، فهو المحاصَرُ في الكوكب الفسيح، وآسره شهيد حي، وجبين مقاوم يتفصد كرامة وندى، يقدم قدحه للأحياء، ولكل في مشربه ما ارتضى.

مائة وخمسون يوما، واسأل العادين، ما كل موت يشبه موتنا، ما كل جفن نزف دمعنا، ما كل خافق ضم نبضنا.. خمسة أشهر دهر كامل، واسأل الأزمان عن بأسنا، اسألهن أعرفن أمثالنا؟ أخبرن جلدا يصهر النار، يلين الحديد لأشبالنا؟ أرأين واثبا إلى حضن الردى بكامل أناقته، صادحا أن الحسنى لنا؟ أرأين مقرورا يصنع من سجف العتمة فجرا دافئا، ويهدي نوره لنا؟ أرأين طاويا يقتات من حشاه، وقد دحا القمر رغيفا لأطفالنا؟ اسأل الأزمان، فإن حرن جوابا فقل الدرس بأرض العزة، وتمام الجواب عند أسوار المسرى، هناك القول الفصل، والعقبى، بإذن الله، لنا.