على متن القطار

تروقني فوضى محطات القطار لا سيما في أوقات الذروة، تكاد تُشْبِه في لخبطتها لحنا مزعجا، منبثقا من سيمفونية معزوفة بأنامل غير ناعمة على أوتار العجلة والضجيج والتيه والوداع. تنبض الحياة داخل هذا المبنى بالقدر الذي تفور به الأفكار داخل رأسي. هو مبنى عتيق، بسيط للغاية وليس على الطراز الحديث، بَيْد أنّه مكتظ عن آخره بذكريات شتى مَنْسيّة لم يؤرخ لصداها سوى تصدعات جدران صامدة ثابتة.

لقد كان صباحا لطيفا من أواخر أيام شهر تشرين الأول، ذا عِبْق عليل قادر على مداواة الأرواح كلها عدا روحي البائسة آنذاك. وقفت مُكرهة في طابور خانق لأبتعي تذكرة الرحلة. أتفرَّس وجوه المّارة المتباينة، أُمعن النظر في أتمّ هدوئي في كل الزوايا الصاخبة، وأراقص مُقْلتيَّ بين تفاصيل مجنونة يراها معظم الناس عادية .ثمة شيء ما غريب يخص هذا المكان النابض بالحياة، يجبرك على فعل أي شيء عدا السكون. أمسكت بقلمي على حين غرة، فانسابت الكلمات من حبره تواليا دون توقف، لم أكبحه وتركته على سجِيّته لعلّه يروي ظمأ أشهر من الانقطاع.

كل التفاصيل هنا وعلى قدر بساطتها آسرة. وقع الخطى المتسارعة التائهة، موج الصخب الذي يُحدثه المسافرون جيئة وذهابا، اشتباكات وتصادمات بالجملة، كتب وجرائد تُلْتهم قياما وقعودا، أجفان مرهقة على شفا سبات عظيم وأخرى شاردة في فراغ عميق رغم ازدحام كلّ شيء، عطور من كل صنف تتلألأ في الهواء وتملأ المكان، تخالطها روائح فناجين القهوة وأكواب الشاي المنعشة، ثَنايا أفئدة متأرجحة بين بهجة عند الالتقاء وضيم لحظة الفراق، قبلات متطايرة في الهواء وأحضان مسروقة على عجل وممزوجة بدموع قلمّا تُذْرف.

مقالات مرتبطة

عَمّ صوت صفير القطار الأرجاء معلنا وصوله أخيرا وبعد طول انتظار. ارتميت في أول مقصورة فُتِح بابها أمامي، ويمَّمْت صوب أقرب مقعد شاغر مجاور للنافذة، لمحته بعيني. في القطار وجوه كثيرة، وجوه يافعة مشرقة يملأها الأمل وأخرى مُصْفرّة ذابلة أرهقها الزمن، فيه طفلة مرحة تقهقه فرحا وشيخ وهن يئن ألما، فيه رضيع يصرخ بصوت عالٍ وعجوز تنوح كثكلى بصمت قاتل، فيه زوجان مبتهجان حديثا الزواج وزوجان هادئان تخبطت بهما الأيام، فيه جندي يَدّعي الصرامة ومراقب يصطنع اللباقة ثم وسط كل هذا وذاك أوجد أنا. رفعت رأسي فرأيتها قادمة صوبي بخطى رصينة وبشفاه تزينها ابتسامة عفوية وديعة. إنها رفيقتي في هاته الرحلة. ألقت السلام واستأذنت للجلوس.

جلست بهدوء وانتظام بالغ وروحانيتها طغت على ضوضاء المكان. ترتدي ملابس تقليدية محتشمة مكوية بعناية وفي منتهى النظافة وتضم حقيبة جلدية بُنِّية بإحكام شديد إليها. تحمل بيمناها سبحة من خشب، تمرر حباتها بحذق فاتن دون أن تنساب منها وكأنها ألفت قبضة يدها لعقود من الزمن. آثار التعب والكد التي خلفتها السنوات غير الرحيمة تظهر جليا على محياها بل وترتسم بلا رأفة على كفوفها الخشنة الجافة وعلى بصمات أصابعها التي أوشكت أن تتوارى… أشعة شمس الظهيرة الدافئة المُطِلّة بخجل في فصل الخريف تتسلل ببهاء عبر الحواشي المتآكلة للنافذة الصغيرة للمقصورة وتنعكس على زجاج نظاراتها الطبية لكنها لا تحجب مطلقا ذاك البريق المنبعث من عيونها الغائرة العسلية. لكْنتها، هيئتها، بشاشتها وسمار لون بشرتها، مزيج يفوح جمالية وجاذبية، يعكس حنية ورقة في الفؤاد ويحيل عن انتماء لمناطق البلاد الجنوبية، لا شيء فيها خارق لكنها شدتني إليها بطريقة ما..

انساب الحديث بيننا، أخبرتني أنها أصبحت جدة حديثا وأن حفيدتها التي تتنفس أيامها الأولى أضحت دون أن تشعر أغلى ما تملك. تِهْتُ في عينيها اللتين تشعان غبطة وهي تصف حبها لصغيرتها. لم أنبس ببنت شفة. أردت فقط أن تتحدث هي وأنصت أنا. فغالبا ما أهيم في هذا النوع من الحب حتى أنني أميزه جيدا. إنه حب فطري، لا مشروط، نَقِيّ، دافئ وإن سُلِب لا يُعوّض قطعا. إنه حب الأجداد والآباء. أخرجتني من تيهاني في اللحظة التي رفعت فيها كفيها عاليا إلى السماء غير مبالية بمن حولنا. تدفقت الكلمات منها لدقائق. حفتني بدعاء عجيب، بطريقة لم أسمع بها قط من قبل. تداركت دهشتي وقالت: أحببتك، أردت أن أدعو لك وأتمنى أن يصادف دعائي هذا ساعة الاستجابة، ربما صادفها من يعلم؟! لكنني أعدك بالمزيد.. هاته السيدة لا تعرف من أكون ولا إلى ما أسعى ولا فيما أتخبط. هي لا تعرف حتى اسمي! هل أحست أنني أحتاج دعوات حينها؟ لا أدري. لكنها قامت بذلك بألطف طريقة ممكنة.

وصل القطار الوجهة التي أريد بلمح البصر على غير عادته وكأن اللقاءات المفعمة بالأحاديث التي لا تُمل تأبى دوما إلا أن تنتهي بسرعة خاطفة. ودعتها بلا أمل في لقاء آخر ومضيت في حال سبيلي تاركة المحطة لمخاضها المستمر ولإيقاعاتها الصاخبة اللامنتهية، تركتها ممتلئة بنفوس ضاجة بالمشاعر ومتخبطة في دروب حياة قاسية لا مجال للخروج منها سالما معافى بلا ندبات. حقيقة، بعض الغرباء هم هدايا من الله. يقتحمون عوالمنا فجأة ليدسوا بدواخلنا ما نحن في حاجة إليه تماما. يفعلون ذلك دون أن يدركوا البتَّة جميل ما صنعوا. فمدينون نحن حتى النخاع لتلك الصدف البَهِيّة التي تجمعنا بهم!