لجّ الشوق بحزْم

يقال من تعلق بشيء عُذّب به، فعلا يهزم المرء أمام الأشياء التي يحبها ويبالغ في محبتها، ألم جسدي ونفسيّ لا ولن يتذوقه إلا فاقده وهنا تتجسد عظمة الخالق في أن يصُدّك عنه ليُعلقك به.

لم تفارق ذاكرتي تلك الليلة العصيبة حين رحلتي في ظلام ومنحتني فصل ختام لدفتر كنت أهتمّ بتفاصيله ومن شدة تعلقي بك، كنت أقتصد عليه بغية أن لا أصل إلى صفحته الأخيرة بسرعة حتى وجدت نفسي أمام آخر صفحة بيضاء وأنا كلي ذهول.. ودعتك ليلا ظلامه قاتم ومن يومها وحياتي ظلام؛ آهٍ من سقام الألباب.

اشتدت القبضة على رسغي وها أنا مقيدة ليس بيدي حيلة، وسط سدفٍ عجيب أتأمل فيك وكأنني أنظر إليك أول مرة: نقاء يشتهي ندى الصباح أن يستسقى منه، إشراقة وجه تنير الجبين كأنه هلال وليد يطل من الأفق على عينَين فيهما السحر وفيهما الفتنة، شعر لماع كأنه إكليل من نضار توَّجَها به الجمال، فمها ينبوع ماء حي يودُّ أن يعبَّ منه كل ظمآن وشفتاها كزورق وحيد تائه على صفحة الماء بين أوراق الأشجار الجافة المتساقطة، تناثرت الدموع من عينها كما يتناثر اللؤلؤ من عقد انفصم سمطه. باختصار منظرها من أعظم المناظر وأظرفها وأحلاها.

يا من سخاؤها علمني الكتابة حتى صرت أخط خواطري وألوذ من خلالها من قسوة الدنيا، علّمني القراءة حتى صرت أقرأ الكتاب المبين وأتمعن في إعجازه وبيانه ؛ ثمّ علّمني المثابرة والصبر والتفاني في حين أنني حين أرفع قلمي لوصفك لا أجد لك قاموسا ولا سبيلا، عذرا سيدتي له الحق في ذلك فهو يقف صامداً متيماً أمام تدفق حنانك وعطفك، أمام صبرك وحملك لشتى المتاعب، أمام طيبتك التي تنهمر لها الجبال وتجف لها البحار ثم أمام أمومتك التي لا تقدر بثمن. يا لغزا أنثويا حياّ اجتمعت في محاسنك العذوبة والرقة بالإباء والغطرسة والشموخ.

غيابك أهلكني كثيرا، أتساءل مراراً وتكرارا عن من سأحدّث حين يطرأ شيئا في حياتي تعيسا كان أم سعيدا، فقدتْ حياتي حياتها من بعدك فلم يعد لها طعم بعدك قط، أين السلامة في وداع المحبين؟ رحيلك أحدث فجوة في عالمي حتى اكتسى هذا الأخير الوجم والشجو فشاخ كرة وأضحى لا يعلو سوى صرخة استشارتي.

كان وداعك تقبيلا على جبينك وما أقساها قبلة؛ قبلة جلْفة كان كظمها أبلغ من أي قول، استرجعت سيناريو حياتي من صبية تمراحة شقية وسط عالم مخملي زاهي الألوان إلى شابة ناضجة احتكت بما فيه الكفاية من تحارب وابتلاءات بيد أنني لم أذق مرارة هذا الحنو قط إذ غدوت أبكما مشدوها يبصر ما ينسل على مرأى منه، كم تجرّعت لوعة الحنين إلى همساتك حتى غدا الصمت مجذافي.

أريد الهروب من هاته الفوضى، أريد الاختفاء والاضمحلال، ولكن جوفي متوّق أن يجدني شخص ما، طال اشتياقي ولا خلّ يؤانسني؛ مؤذٍ جدا هو أن أهرب من آهاتي إلى النوم لأصفع بحنين مجون يوقظني من نوم عميق خدرت فيه جسدي كي لا يشعر بقسوة الألم ولا تنكسر عظام صدي وجعا، ظننت أني لم أعد أحتوي شيئا منك في حين أنني أقمت وطني بين يدك فكيف للمرء أن ينفك عن مأواه وموطنه!

تركت لي وجعا يكفيني مائة عام، أهذا هو كرم المحبين؟ لا أدري مراحل شفائي ولا عددها ولا مدتها ولكنني محتارة في ما قد بِتّ عليه تغيرت في ملامحي، في نظراتي، في نبرة صوتي، في طريقة مد يدي للسلام وتعاملي مع الآخرين باختصار تغيرت عن نفسي وكياني حتى غدوت غريبة عن كينونتي؛ لا أكترث لأنني أعلم أنني سأعود حين أشفى من جروحي لا أدري كم سيأخذني ولكنّني متيقنة أنني سأستفيق يوما ما.

كانت هاته القصيدة شائعة لديك وأنا بدوري حفظتها لحْناً وشِعراً كون آذاني اعتادت على سماعها في حين أنني تذوقتها لأول مرة وغطست في معانيها حتى وجدت نفسي بين بيوتها «أهلَ حِزب الديان حار العقلُ مني إني هائم ولهان غائب عن أيْني، كنا وأما الآن تِهنا عن الكونِ لا جهة لا مكان ندري فيها وطني، لا فَضا لا أركان حيث نضع بدني حالي مثلي حيران فيما وقع مني، أتركني يا إنسان لا تسألني عني لو تَعْلم بما كان في الغالب تعذرني…»

وتحل السكينة في القلب فجأة كمواساة إلهية يستغني بها المرء عن كل شيء، لن أزيف أنني رضيت بغيابك وأنا خاطري فيك ولكنّني رضيت بقضاء الله وقدره فالدوام لله وحده سبحانه والفناء لسواه. فيا رب علق قلبي وقلب عبادك بك واجعل روحي وإياهم لا تأنسُ إلا بك ولا تُبصر إلا درباً يقود إليك، ودعائي الأخير مع هدوء الفجر اللهم غيرني حتى تحبني.

1xbet casino siteleri bahis siteleri