ونراه قريبا!
أنا ابنة الريف، أعيش فيه اليوم على بعد قرن من أول معركة مسلحة قادها البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي -رحمه الله- في وجه العدو الإسباني الذي كان يغتصب أرضي، وأفكر: ماذا لو لم يؤمن الخطابي بالمقاومة؟ ماذا لو استسلم لدعوات السلام وساوم؟ ألم يكن رجلا أعزلا في قوم مشتتة قبائله؟ لا سلاح لهم ولا قوة تذكر، والعدو جيش نظامي مسلح بأعتى ما سلحت به جيوش المنطقة آنذاك، ألم تكن المعادلة مختلة موازينها من البداية؟ ألم تكن إحدى كفتي الميزان تلامس البلاط لشدة ثقلها؟ والخطابي وكل قومه الذين هم أصحاب الأرض على الكفة الأخرى يترنحون؟ ألم يفكر للحظة بأن مقاومة عدو كهذا في حرب متوقعة النتائج كهذه لن تجلب له ولقومه سوى الخراب؟
بلى، لا بد أنه فكر وهو رجل مفكر، لا بد أن المتخاذلين مروا به وهم يتشدقون بمدح السلام، وسوء الحرب، وجمال الغنائم إذا ساوم، والخونة موجودون في كل عصر ولا زلنا مبتلون بهم إلى يومنا هذا، عزاؤنا الوحيد أن التاريخ لا يأخذهم على محمل الجد فيستغني عن ذكرهم، فلا بد أن هذا الطرح لم يغب عن باله، ولم يخفَ على رجل بذكائه أن كفة الميزان تميل لصالح المستعمر.
ولكن شيئا ما خالج صدره كان أقوى من كل هذا، كان يؤجج شعلة الثقة في كيانه أنه قادر على طرد المستعمر رغما عن أنفه وأنف عملائه وأسلحته والخونة، لقد كان يؤمن حتى النخاع أنه صاحب الحق، وأن الحق مؤيد من عند الحق جل جلاله، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فسعى في توحيد شتات قومه، ثم خطط وتوكل على الله، ثم قاوم بإيمانه وبالسلاح حتى ألحق بالمستعمر أشنع الهزائم وحرر أرضه التي أعيش في رحابها وأحدثكم منها اليوم.
يقول هذا المقاوم العظيم رحمه الله: “انتصار الاستعمار ولو في أقصى الأرض هزيمة لنا، وانتصار الحرية في أي مكان هو انتصار لنا”. لذلك أؤمن أن انتصار الفلسطينيين اليوم هو انتصار لي ولأجدادي المقاومين ولكل الأحرار من أحفادهم، لأنني حين أفكر كيف انتصر الخطابي بقومه الأعزل على جيش الاستعمار القوي لا أجدني إلا أفكر أن التاريخ يعيد نفسه، أليس الفلسطينيون أصحاب الأرض والحق، أليس عدوهم محتلا جبانا مغتصبا؟ أليس مشهد الميزان ذاته يتكرر، فتبدو كفة الظلم أثقل بموازين القوة عن كفة أصحاب الحق، وتبدو المقاومة بأسلحتها هشة أمام جيش الاحتلال المنظم المدجج بأحدث أنواع الأسلحة في العالم؟ بلى والله هذا ما يحدث، ولكن، وكما حرر أجدادي أرضهم البارحة بعون الله وإيمانهم وسعيهم وانتزعوها انتزاعا من أيدي المستعمر الغاصب، غدا سيحرر الفلسطينيون أرضهم بعون الله وبإيمانهم القوي ومقاومتهم وينتزعونها من المحتل انتزاعا، لأن كل المقاومات كانت يوما أضعف من المحتل، ولكن الحق ينتصر لأنه مؤيد من عند الخالق، والتاريخ يشهد أن الفكرة الحقة غلبت قوة المادة في معارك كثيرة.
ولأن انتصار الحرية في أي مكان هو انتصار لنا كما يقول الخطابي، فانتصارها في فلسطين انتصار مضاعف لنا، لأن أهلها إخوتنا في الإنسانية والدين والمبادئ، غدا سنزور القدس، وسنبكي على أعتاب الأقصى فرحا بعد شوق طويل، ونعانق أهله وحجاجه، وسنكحل أعيننا بزرقة سمائه، ونستشعر دفء صخره وبرد نسائمه، بعد أن نصلي لله شكرا وحمدا، وهذا والله يوم رغم كل ما يوحي لنا بأنه بعيد، نراه قريبا!