الثقافة: من التراث والتاريخ إلى منتوج مصنع

شكلت صناعة الثقافــة قطاعــا حيويا من صلب النظام الرأسمالي، يتم توجيهها إلى المجتمعات الاستهلاكية بالدرجة الأولى، تؤدي هذه الحالة إلى خلق حاجياتها ورغباتها من خلال إنتاج صناعي ضخم يحدث تحولا عميقا في نظامها الاجتماعي والاقتصادي، حتى تظل أسيرة الرأسمالية الصناعية التي تعمل على التلاعب بوعي الناس وتوجهاتهم، وزعزعة مفاهيمهم بمختلف وسائل الإعلان والنشر، فتخلق بذلك مع تراكم الوقت ودَور الشركات الإنتاجية للأفلام ودُور النشر وقنوات الإعلام المحتكرة لصناعة الثقافة .. حــالة وهمية من المعتقدات الزائفة المتصلة بمختلف أساليب الاستغلال، ودسها لمفاهيم كالحرية والسعادة والمصلحة الفردية والحداثة والأخلاق بشكل مغلوط وماكر، في محاولة لإحداث بنيات غير سليمة داخل نسق المجتمع وجعلها واقعا يتم قبوله والاعتقاد به كجزء لصيق في الوعي الجمعي مع إحساس بالرضا المصطنع والزائــف.

قد تتسائل أيها القارئ الكريم عن ماهية هذه المقدمة المهاجمة لموضوع “الثقافة التصنيع أو صناعة الثقافة” (1).. أجيبك بتأصيل معرفي عن ماهية الثقافة أولا، حيث نجد أن أغلب التعريفات عن هذا الحقل تلازم ما تراكمه الأمم من إبداعات وابتكارات وعادات وأعراف مجتمعية تحافظ فيها على خصوصياتها وهويتها الأصيلة، فتتوراثها جيلا عن جيل. ولعل تعريف الدكتور “محمد علي حوات”، في نظري شاملا يصف فيه الثقافة بأنها منظومة متكاملة، تضم النتاج التراكمي لمجمل موجات الإبداع والابتكار التي تتناقلها أجيال الشعب الواحد، وتشمل بذلك كل مجالات الإبداع في الفنون والآداب والعقائد، والاقتصاد والعلاقات الإنسانية، وترسم الهوية المادية والروحية للأمة لتحديد خصائصها وقِيَمها وصورتها الحضارية، وتطلُّعاتها المستقبلية ومكانتها بين بقية الأُمم.

بعد هذه التعاريف عن ماهية الثقافية سيتجلى لك أيها القارئ أن الثقافة في الحقيقة تراث تاريخي تحافظ عليه الأجيال المتوارثة لكل أمة، تطوره وتستعمله بعيدا عن مختلف الثقافات الأخرى المتباينة ، درءا لكل انصهار فيم بين بعضها البعض، وانعدام خصوصياتها إلى حد اندثارها. هذا ما نجده الآن مع آفة جلبت من النفع نصيبا، ومن البأس أكثره وهي: العولمة الثقافية في محاولة لبسط ثقافة معدلة صناعيا حسب الطلب، مقابل طمس هويات الحضارات والروافد الثقافية الأخرى، بل ودمجها في ثقافة واحدة لا تُـقيم للتنوع الثقافي ولا الحضاري وزنا، مستخدمة كل الآليات الاقتصادية والإدارية والسياسية والتعليمية والإعلامية التي تحمل على عاتقها مهمة نشر السلوكيات والأفكار التي تضمن تذويب أكبر عدد ممكن من ثقافات العالم في بوتقة الثقافة المصنعة ذات التوجه الاستهلاكي الموحد، تقوده القوى الغربية الرأسمالية الكبرى.

” لا أمل في السلام على وجه المعمورة ما دامت الأمم تسعى لطمس الهويات الثقافية والحضارية لبعضها البعض، تبني كل واحدة منها امتيازها عن غيرها على عاملي القوة والتاريخ”

تاريخيا، كان البناء الثقافي متراكما ومتصاعدا من حيث بنيات المحتويات الإنسانية، فأنتجت فكرا وأدبا وفلسفة وفنونا أثرت في الوعي المجتمعي منذ عصر الأنوار إلى منتصف القرن الماضي. فلم تكن الثقافة من ذي قبل بضاعة يتم تسليعها وإنتاجها حتى حدود الحرب العالمية الثانية التي جعلت اندماج التقنيات الحديثة بالثقافة أمرا ممكنا، لكن بطريقة بشعة أسهبت في موجة إنتاجية هائلة، أدى إلى إعادة النظر في اعتبار الثقافة منتوجا استهلاكيا يمكن رقمنته وعولمته والتطوير من وسائل انتاجه .. ليتحوّل هذا الإنتاج إلى حقل قد استوعبه الفضاء الصناعي ورواده الذين وجهوا طاقاتهم المالية والفكرية في وضع مقاسات للثقافة المصنعة، بأفكار مبتذلة ومنمقة وبطرق تسويقية جذابة تمثلت في تأسيسهم لثقافة شعبية جماهيرية تعمل على إشباع الحاجات بشكل كلي أو شبه كلي، في غياب تام لمعايير تحد من الهيمنة الصناعية على الخصوصيات الثقافية والحضارية لكل مجتمع، ولكنه للأسف تحولت هذه الصناعة الاستهلاكية إلى آلة مهيمنة وسيطرتها على رغبات الناس وتفكيرهم سيطرة غاب فيه الوعي عن خطورة اندثار الثقافات الأصيلة (2). وسببه هذا السعار الذي ركب الرأسمالية بشكل غير عقلاني تغلبه إثارة الرغبات وتلبية الحاجات، وذلك بالدفع بالتطور التكنولوجي وبرؤوس أموال ضخمة موجهة للتصنيع، مع مساندة من الشركات العابرة للقارات وتسويق وسائل الاعلام العالمية وبرامج التثبيت من المؤسسات الدولية الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية والاجتماعية .. وهو الأمر الذي يصفه الخبير الاقتصادي “جلال أمين”، بأنه أشبه بالتعاليم الدينية المقدسة التي كان رجال الدين الأوروبيون يقدمونها لشعوبهم في القرون الوسطى، ثم يطالبونهم بالطاعة وهم عميان!

تحدث المفكر الفرنسي “بيير بورديو” في كتابه “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” عن حقيقة وسائل الاتصال والإعلام الحديثة وخاصة القنوات التلفزيونية الفضائية التي تجاوزت دور التسلية والتثقيف إلى آلية مساهمة في ضبط الوعي والسلوك الاجتماعي حتى صارت أداة عنف رمزي تستغلها الطبقات المنتجة المهيمنة لخدمة أجنداتها ومصالحها الخاصة. بل اعتبر بورديو أن الوسائل المرئية كآليات التلفزيون أصبحت تشكل خطرا يهدد الحياة السياسية والديموقراطية من خلال تكوين رأي عام يتوافق مع التوجهات الفكرية والسياسية والاقتصادية للفئات المالكة للقدرة التقنية والمعلوماتية في قولبة الفكر المجتمعي وصناعة رأيه العام بما يتفق مع مصالحها وأهدافها. إذا وسائل الإعلام وسائل مدفوعة بمنطق الركض واللهاث وراء مزيد من الجمهورمن خلال دورها السلبي الخطي، يتبعها نوع من المثقفين لقبهم بورديو بــ “كلاب الحراسة” الذين يرسخون مصالح الطبقات المهيمنة ويلعبون بالعقول عن طريق إنتاج بضائع ثقافية مصنعة (3).

وجدير بالذكر أن ذلك الاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة لا يقف عند حدود تكريس الاستتباع الحضاري بوجه عام فحسب، بل إنه يسعى أيضًا إلى تكريس الثنائية والانشطار في الهوية الثقافية والعمل على تفتيتها وطمسها على مدى الأجيال الصاعدة والقادمة أيضًا، ومن ثم تواجه الكثير من الدول مأزقًا لا تحسد عليه، وخصوصًا في سيادتها الفعلية على أراضيها، ولا سيما بعد أن حطمت العولمة الكونية والنظام الدولي الجديد أطواق سيادات تلك الدول وقوانينها وحدودها وأسواقها وجهازها الإعلامي، من أجل سيادة وانتشار ثقافة عولمية مخترقة ليس للحدود بل للفضاءات، وشركات عابرة ليس للمجالات بل للقارات، وعليه فسوف يتلاشى الإحساس بالهوية والخصوصية الثقافية (4).

فقد كان لما خلفته العولمة من تطورات واسعة في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال على الوعي الاستهلاكي لسكان العالم الثالث بالخصوص، حيث أخذ يقفز بمعدلات كبيرة في وقت وجيز وبكشل مخيف ترك آثارا عظيمة تمثلت في بسط ثقافة الاستهلاك بشكل مفرط ومقارنتها بمفاهيم السعادة الحقيقية وأساليب العيش الأكثر راحة وإسعادا، فتحقق الهدف بطمس هوية الشعوب كما وكيفا … ولعل التجربة التي قام بها “فانس باكارد” تعطي دليلا واضحا على هذه الهيمنة المخيفة للطمس، حيث قام فانس بمراقبة الانطباع الذي يتركه عرض ومضات سريعة لعلب من المثلجات، خلال مشاهد متفرقة لأحد الأفلام السينمائية، وبشكل هامشي دون أن يشعر المشاهدون بأنهم قد انتبهوا للأمر، وكانت النتيجة أن مبيعات دار السينما أثناء العرض قد ازدادت بشكل ملحوظ؛ مما دفع به للاستنتاج بأن “الدعاية الباطنية” تشكل أسلوبًا فعالًا للإقناع الذي لا يشعر به المتلقي حتى يفكر في مقاومته، وبما أن هذه الدراسة قد وردت في كتابه “المقنعون المستورون” في عام 1957.

ولـهذا فإن الأثر سيبدو مضاعفًا اليوم مع التقدم الهائل في وسائل الإبهار، والسيطرة على جانب اللاوعي لدى المتلقي؛ إذ يعتمد الكثير من منتجي الأفلام والبرامج على هذا المبدأ لترويج قِيَمهم الاستهلاكية؛ حيث تقدم مثلا رموز الحياة الأمريكية البسيطة اليوم كالجينز والتيشيرت، وأسطوانات الروك والبوب المدمجة، وهواتف ذكية وشاشات عرض ثلاثية الأبعاد بكليبات وأفلام يتجرد ممثلوها عن الأخلاق والملابس إلى جانب كرة السلة وألعاب الفيديو الرقمية، مع قليل من الهامبورغر والكوكاكولا، وكأنها جزء لا يتجزأ من حياة الرفاهية الأمريكية، والتي يسعى للحاق بها معظم شباب العالم، وخاصة في الدول النامية التي يشكل سكانها الأغلبية الساحقة من سكان الأرض.

لقد أصبح مجتمعنا في نهاية المطاف تستهويه الثقافة الاستهلاكية، لذلك فهو حريص على أن تتحول حياته إلى رحلة لا يأخذ فيها كتابًا ولا ورقة، بقدر ما يحرص على تعبئة عقله ووجدانه بنزعة استهلاكية مدمرة، كي يصبح مجمل حديثه عن آخر ما طُرِحَ في الأسواق من الهواتف النقالة والوسيلة التي تمكنه من اقتناء سيارة حديثة وجهاز كمبيوتر متطور، أو أنه يقضي معظم حياته وهو يلعن الفقر الذي لم يتح له الفرصة في أن يكون كائنًا استهلاكيًا يقتني أحدث الماركات المعتمدة في عالم الساعات والعطور والملابس الجاهزة (5)، بل حتى أنه يبحث عن ربع فرصة ذهبية ليدخل لعالم هذه الصناعة التي سحرت عينه وعقله ..(6) وهو ما يجعلنا ندرك زيف الحرية الرأسمالية الملازمة للمجتمع المعاصر، حيث إنه دومًا يكون هناك حاجات ملبّاة لكنها حاجات مخلوقة من خارج الإنسان مفروضة عليه، وهذه العملية تدور بدون توقف”، وبالتالي فمن غير المنطقى أن توصف بأنها حرية اختيار لأشياء مفروضة سلفًا، فالحرية الإنسانية لا تقاس تبعًا للاختيار المتاح للفرد، وإنما العامل الحاسم الوحيد في تحديدها هو ما يستطيع الفرد اختياره وما يختاره، فقدرة المرء على اختيار سادته بحرية لا تلغي حقيقة وجود السادة ووجود العبيد (7) أمام هذا الغزو الصناعي لثقافة شعبية معيبة من طرف الدول المالكة لوسائل القوة المادية والإعلامية نتسائل باهتمام بليغ: كيف تستجيب دول العالم النامي لهذه الصناعة؟ وكيف يمكن لها أن تدافع عن أمنها الثقافي -والتي نعلم أنها لم تعر ثقافاتها المحلية الكثير من الاهتمام خلال العقود الماضية-، مقابل انشغالها بالتحديات التنموية، والديون الخارجية التي تنوء بحملها منذ الاستقلال، فضلاً عن الصراعات الدموية التي عصفت بكثير منها، ومقــاومة ثقافاتها من أجل البقاء؟!

مما يظهر جليا أن دول العالم الثالث تواجه أزمة حقيقية فيما يتعلق بالأمن الثقافي في مجتمعاتها، وهو اختراق ثقافي يزداد خطورة في تعرضه لنسق القيم ونظام إنتاج الرموز في المجتمع، حيث ضعفت مؤسسات الاجتماع والثقافة التقليدية، وهما الأسرة والمدرسة، واللتين لم تعودا قادرتين -وفق صيغ أدائهما الحالية- على حماية الأمن الثقافي للمجتمع، والإيفاء بحاجات أفراده من القيم والرموز والمعايير والمرجعيات التي أصبحت تصاغ خارج حدود الجغرافيا والاجتماع والثقافة الوطنية، وهذا ما رتب استحقاقات إضافية تمس الأمن الثقافي ومكونات الهوية، ولا تستطيع المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية مواجهتها ما لم تتخل عن نظم عملها العنيفة، وتتحرر من الذهنية الرقابية على الإنتاج الرمزي لأنها لم تعد مجدية من جهة، ولأنها عاجزة عن إشباع حاجات الناس الثقافية والجمالية المتزايدة والقادرة على المنافسة والتميز(8). وآثاره السلبية، التي تهدد الأمن الثقافي والإعلامي والفكري داخل تراب البلاد، أهمها تفشي الأمية وتزايدها وانخفاض المستوى الصحي والتعليمي والمعيشي والأمية التعليمية والثقافية، والفوارق الهائلة التي تتنامى بين الطبقات الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى التبعية الثقافية والتكنولوجية للغرب، وهو ما يعني بشكل صريح: الخضوع (9).

ولهذا؛ فإن كل محاولات بناء الجدار الحامي للثقافة المحلية بالنسبة للدول النامية، لن يتأتى بمعزل عن الإيمان الشعبي بضرورة وضع اليد على المشاكل الداخلية والمحاولة في إيجاد حل سليم ناجح يؤسس للمنهج الوسطي المعتدل لمواجهة تأثيرات العولمة الحاملة للثقافة المصنعة والتخفيف من حدة استهلاكها، وهذا ما يعزز من المناعة الفكرية للمجتمع الذي يعتمد الوسطية في التصدي للغزو الثقافي، ويجد في هويته الثقافية والدينية والاجتماعية مؤهلات حيوية تعمل على تقوية دور مؤسسة الأسرة والمدرسة في البناء الفكري والثقافي. الأمر الذي سيخلق لشباب اليوم تحديا عظيما في إعداد بدائل ملائمة لمختلف ترسبات الثقافة الأجنبية السائدة، يوازن في تبنيه لسياسة إصلاحية تجديدية بين عدم التقوقع والانعزال وبين الانفتاح المطلق والتحرر السلبي، آخذا بعين الاعتبار خصوصيات مجتمعه في الجانبين الديني والعرفي(10).

لــعل ما يجدر بنا أن نجعل الكلمة الأخيرة للسيد عمرو موسى، الأمين العام السابق للجامعة العربية في قوله: “المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها، ومحددو نتائجها، لقد بات عليهم من الآن فصاعدًا القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها.” (11).

—————————

مقالات مرتبطة

[1] . ظهر أول مرة مفهوم جديد في علم الاجتماع النقدي أطلق عليه الفيلسوفان الألمانيان “تيودور أدورنو و هوركهايمر” “ تصنيع الثقافة” في كتابهما المشترك “جدل التنوير”” ، Dialectic of Enlightenment صناعة الثقافة: التنوير والخداع الشامل سنة 1947 Kulturindustrie ، Calture industry حيث رأى أدورنو وهوركهايمر بأن هناك مصانع تنتج ثقافة، بالرغم من أن الثقافة لم تكن يوما ما إنتاجاً صناعياً، كما هي اليوم. ولم تعد الثقافة تتخذ لها مكاناً في بناء فوقي مستقل نسبياً، لأنها أخذت تمتص من البنية الاقتصادية وتتحول إلى صناعة أصبح يصعب مع الوقت التمييز بين الثقافة والتكنولوجيا الصناعية.

لكن يظهر تسلط الآليات الصناعية في إشراك جبري للملايين في عملية الإنتاج والاستهلاك وإعادة الإنتاج والاستهلاك دون مقاومة. ومع أن مستوى الإنتاج ينبع أصلا من حاجات المستهلكين، غير أننا نجدهم مضطرين دوما للموافقة على ذلك ومن دون مقاومة. وهذا الواقع هو في الحقيقة دورة من الخداع ورد فعل للحاجات الاستهلاكية اللانهائية التي تجعل النظام الاقتصادي أكثر قوة وتماسكا.

2 تغمر الأسواق اليوم ثقافة شعبية تجارية لا تنبع من حاجة الجماهير التي تستهلكها، وإنما من شركات رأسمالية كبرى عابرة للقارات تصنعها وتسوّقها وتدعمها وسائل إعلام ودعاية مبرمجة ومكثفة ومغرية تجعل الإنسان يركض وراء بريقها الأخّاذ لاهثا عن طريق التلفزيون والسينما والإنترنت ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعية الأخرى. ويعمل متخصصون من فنيين وصحفيين ومصورين بالدعاية والإعلان التجاري الأخّاذ لتسويق هذه الثقافة الشعبية وترويجها وغسل العقول وتشكيلها وفق مقاسات استهلاكية معيّنة تساعد على خلق ميول لتقبل البسيط والساذج وحتى الرديء وتشكيل عقل شعبي جمعي يتلقى الثقافة الشعبية المصنعة دون تفكير وحسّ جمالي رفيع وتسيطر على آليات توجيهه وتحريكه اجتماعيا وسياسيا ضد مصالحه وبوسائل وأساليب ناعمة تدغدغ عواطفه وتثير غرائزه الأكثر بدائية.

3 هذه السيطرة هي نظرة مادية براغماتية على هذه المواد، والتي تقدم على أنها ليست إلا للترفيه والتسلية، في حين يؤكد الباحث الأمريكي “هربرت شيلر” “أن البرامج الترفيهية هي في الواقع أشكال تربوية … وأشكال توعية أيديولوجية”، ويؤيده “ميلفين ديفلير” في قوله: “يمكن رؤية الاعتماد القوي لوسائل الإعلام على النظام الترفيهي بسهولة أكثر في تعديل القيم والقواعد السلوكية..”

4 يقـول الكاتب ” روجيه غارودي” في كتابه” أمريكا طليعة الانحطاط “: لقد أدرك المستثمرون الأمريكيون مدى الإقبال العالمي على الثقافة الرخيصة، وأن الناس عمومًا يميلون إلى العرض الإعلامي الذي يضمن لهم إشباع قدر كاف من غرائزهم، وإمضاء المزيد من الوقت في سبيل التسلية، فبينما تنفق الحكومات الأوروبية الأموال الطائلة لدعم مبدعيها من الفنانين والشعراء والمخرجين المسرحيين والسينمائيين، أوكلت الولايات المتحدة مهمة اختيار ونشر ثقافتها إلى عمالقة السينما في هوليود وشركات الإعلان في مانهاتن.

وفي ظل الليبرالية المطلقة التي لا تعرف إلا الربح، والبراجماتية التي تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، يقوم هؤلاء بدراسة أذواق الشريحة الأوسع من المستهلكين، في العالم كله، ثم تحديد المنتجات الأكثر رواجًا وربحية، وهكذا يصبح كل من فان دام ورامبو وشاكيرا، ومايكل جاكسون نجومًا يحملون شعلة الثقافة الأمريكية إلى العالم، ويمتصون من خلال منتجاتهم أرباحا طائلة

[1] نسمة البطريق، الإعلام وصناعة العقول: التليفزيون نموذجًا، الموسوعة السياسية للشباب، . نهضة مصر، القاهرة، 2007 ، ص 34

6 عمار عكاش، قراءة في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركيوز: من القمع السافر إلى الهيمنة، الحوار المتدمن، العدد 2042 بتاريخ 2007 / 10

7 وقد حدث بالفعل للكثير من أبناء الطبقات المطحونة أن تم انتقاء بعضهم وتحويلهم بدقة خلف الكواليس وشاشات السينما والتلفاز والاعلانات إلى نماذج مثالية للجنس البشري ونجوم أسطورية، وذلك عبر اعتماد حملات إعلامية ضخمة ومختلف وسائل التزييف .. ليصبح هؤلاء النجوم المثل الأعلى للأجيال الشابة حول العالم، ويتم تقديم نمط معيشتهم بأدق التفاصيل لجماهير المعجبين؛ إذ بات من الممكن – وعبر شبكة الإنترنت – الإجابة عن أسئلة كثيرة حول أوضاعهم الاجتماعية، ومواعيد نومهم واستيقاظهم، وأطباقهم المفضلة، فضلاً عن تفاصيل لا يمكن أن يقال عنها إلا أنها إباحية .

8 ذكر ذ. سليمان إبراهيم العسكري في مجلة العربي التي تصدرها وزارة الإعلام الكويتية في العدد 530، يناير 2003، ص 11، نقلا عن كتاب (الثقافة في عصر الاتصالات) لعدة مؤلفين قائــلا : ” لقد أصبحت الشعوب اليوم تتقبل كل مخلفات الثقافة المصنعة بمختلف شوائبها، حتى ما عادت لها معايير للتمييز والتمحيص قبل استهلاكها، ولعل الشعب الأمريكي اليوم يضرب نموذجا حيا في هذه الثقافة … إذ بات مثلا يتقبل فضائح النجوم الإعلامية والفنية بشكل أكثر تحررًا، ويرفعون من شأنهم؛ ليتربعوا في أعلى المراكز الاجتماعية، وبذلك لا يشكل فوز نجم أفلام الحركة “أرنولد شوارزنيغر” بمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا – والتي يعتبر اقتصادها كولاية مستقلة في المرتبة السادسة أو الخامسة عالميًّا – أي مفاجأة، بالرغم من ذلك الكم الهائل من الفضائح الأخلاقية التي نشرها منافسوه عبر حملاتهم الدعائية؛ إذ يكفي مزج نجوميته الساحقة بثروته الطائلة؛ ليحصد أكثر من نصف أصوات الناخبين، ويصبح حاكم أغنى الولايات الأمريكية وأكثرها سكانًا.

ويذكر أن “شوارزنيغر” قد تم تنصيبه بعد عزل الحاكم السابق للولاية قبل انتهاء مدة ولايته وللمرة الأولى منذ عقد العشرينات، وذلك بسبب الأزمة المالية الخانقة التي عانت منها الولاية، ولكن وسائل الإعلام التي احتفت بنجاح النجم في وصوله إلى هذا المنصب، لم تشرح كيف سيتمكن من معالجة هذه الأزمة !

9 عبد الغني عماد، الثقافة والعولمة والتقانة.

10 وهو ما أدى إلى ضياع الهوية الثقافية بعد الاختراق الكبير للأمن الثقافي، يرفق ذلك أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية زادت معها حدة السخط العارم من فئة الشباب، وهذا ما يزيد وتيرة الوضع تزداد سوءا أمام الخطاب الإصلاحي التجديد والآخر المحافظ المناهض لكل محاولة عصرنة وتحديث للتراث القديم .

11 عقب أحداث الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بدأت أصوات التيار شبابي تتصاعد بوتيرة عالية جدا معبرا على أن الخلاص من مشاكلهم المستعصية ليس بإصلاحات تعديلية على البنية القانونية والاقتصادية بالأساس، بل لن يتم الخلاص إلا بثورة على الواقع المتردي تقتلع جذوره في محاولة للقطيعة مع الماضي المزري، وتغييره نحو الأفضل. ومما يزيد الأمر حساسية وتعقيدا أن يسود لدى الشباب اعتقاد بأن جميع من حولهم متورط بشكل أو بآخر في إفساد كل محاولات إصلاح حقيقية، تبني وعيا فكريا، وأمنا ثقافيا محليا، يتصدى لكل موجات الاستهلاك المفرط والتبعية الاقتصادية والثقافية، وأن الإصلاح والتغيير لا يتم إلا بشكل مباشر وخطابات عنيفة وإجراءات حاسمة لا تراجع فيها؛ وأن الانتظار والتسويف والمماطلة والمزيد من الوقت الضائع في حلول ترقيعية لا تعني لديهم سوى المزيد من الاستسلام والتخاذل.