رسالة من رجال البحر الأحمر: صيدنا لسفنكم مقابل حصاركم لغزة ! – دفاعات اليمن وأطماع الصهيونية -
ما يقارب مرور 76 يوما منذ بدأ العدوان على غزة ارتقى خلالها أكثر من عشرين ألف شهيد معظمهم أطفال ونساء، وحيث لا صوت هناك يعلو فوق صوت القذائفة الغاشمة على العزل، وأمام بطولات الكتائب في الميدان ضد التوغل البري للكيان الإسرائيلي المدعوم أمريكيا وأوروبيا، لم يتردد محور المقاومة في فتح جبهات قتالية من الضفة الغربية وجنوب لبنان والأراضي السورية والعراقية عبر استخدامه استراتيجية “وحدة الساحات”.
حيث ساهمت كل الفصائل بمختلف أنواع الضربات المتتالية والمستمرة في محاولة لاستنزاف موارد الكيان الصهيوني وتخفيف الضغط عن قطاع غزة، كانت أكثرهم جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن الذي أعلنوا مشاركتهم في معركة “طوفان الأقصى” بالمسيرات والصواريخ، قصفت عدة مناطق بأم الرشراش “إيلات” جنوب صحراء النقب، مما سببت قلقا كبيرا لدى الغرب لاسيما بعد إطلاقهم سلسلة من العمليات العسكرية في البحر الأحمر، على مداخل مضيق باب المندب، ضد السفن وقوافل الشحن المتجهة إلى “دولة الاحتلال”، والقيام باحتجازها والسيطرة عليها كما حصل لسفينة “ليدر جلاكسي”، وقد كانت معادلة جديدة وصعبة على الغرب والصهاينة من خلال فرض حصار على تجارتهم البحرية وتضييق الخناق على سفنهم مقابل رفع الحصار عن غزة وإنهاء العدوان عليها، وهو ما استدعى الولايات المتحدة لحماية الكيان الصهيوني إلى جر دول أوروبية وعربية لتشكيل حلفي بحري لمواجهة عسكرية محتملة.
إن الحصار البحري الذي تبناه رجالات اليمن الذين اتفقوا حوله على اختلاف مراجعهم في مواجهة الاحتلال الصهيوني، نابع من منطلق أنه هناك فرصة هامة لتوحيد الصفوف الداخلية ونصرة غزة من جهة كإجماع شعبي على دعم فلسطين يتجاوز إجماعه في ما يخص قضاياه الخاصة. كما أنه من جهة أخرى تأكيد على رغبتهم في إثبات سيادتهم البحرية على المضيق والبحر الأحمر، وتصديا لأوهام السرديات التي بنت عليها الصهيونية أطماعا كبرى ممتدة إلى مياههم لتأسيس ما أسمته بـ “مملكة إسرائيل الكبرى”، التي تنعش جموع مستوطنيها بالتغذية التوراتية وتلهب وجدانهم بحلم بن غوريون الذي كان يسعى إلى تحقيق أمنيته برؤية أساطيل داود وسليمان تمخر عباب البحر الأحمر – على حد تعبيره.
وحيث إن البحر الأحمر يعد من أقصر وأسرع الطرق البحرية التي تربط بين القارات الثلاث وامتلاكه مجموعة من الامتيازات الاستراتيجية وهي في غاية من الأهمية نتيجة موقعه الجغرافي الحيوي المحاذي للبلدان النفطية وبالأخص الخليج العربي والجزيرة العربية، حيث تبلغ احتياطات النفط ما يفوق 70٪ هي الأعلى في العالم، كما يبلغ عدد السفن والقطع البحرية التي تمر عبر مضيقه الجنوبي: باب المندب، نحو 25 ألف سفينة سنويا، تحمل منها 30% من النفط العالمي يمر عبره كل عام، أي بمعدل 4.5 مليون برميل يومياً. كما أصبح البحر الأحمر شريانا حساسا للتجارة العالمية التي بلغت نسبة ما يمر عبره من السلع والبضائع نحو 15% أي ما يعادل 2.5 تريليون دولار سنوياً، كما أن 60% من الاحتياجات الطاقية تمر من خلال لتزويد الأسواق الأوروبية، بينما 25% من البترول الخليجي يمر عبره نحو الولايات المتحدة الأمريكية.
وأمام لغة الأرقام تسيل لعاب الكيان الإسرائيلي وتزداد عليه أطماعهم التي تستنبط من التراث اليهودي حافزا لها؛ كما يستمد الحاخامات والصهاينة معا سردياتهم عنه بحيث اعتبروه بحرا يهوديا في القديم ، وأن علاقتهم به امتدت منذ عشرة قرون قبل الميلاد، بحيث إن أسلافهم اليهود عمروا طويلا على ضفافه الشرقية والغربية في عهد نبي الله سليمان بن داوود ومملكته التي اتسعت رقعتها إلى هناك، فتزوج من الملكة بلقيس التي أنجبت له منليك لذي حافظ على ملك الحبشة لـ 225 جيلا حتى آخر ملوكها: الإمبراطور هيلاسيلاسي .. كما تزوج من ابنة أحد ملوك فراعنة مصر من الشاطئ الغربي أنجبت له بن صيرة كما هو شائع في روايتهم السردية، بل حتى في أوساط مسيحية ومسلمة من الأمهرية في إثيوبيا.
ثم عززت الحركة الصهيونية سردياتها حول البحر الأحمر وفلسطين منذ مؤتمر بازل عام 1897 بقيادة هيرتزل، كبراهين تراثية يهودية لضرورة إقامة وطن قومي في فلسطين والتواجد الاستيطاني في جنوبها كضرورة دينية مصيرية أبدت من خلالها الحركة الصهيونية اهتماماً بالغاً عند مناقشة الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين عام 1947، ترجمها ابن غوريون بعدها بسيطرته على بئر السبع وصحراء النقب ثم أم الرشراش (إيلات حاليا) عام 1949 كواجهة استراتيجية مهمة إلى جانب تيران وصنافير 1956عام، لتعزيز التواجد الصهيوني والسعي نحو تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة يهودية بعد اكتمال بناء ميناء أم الرشراش “إيلات” سنة 1951.
أعلن رئيس وزراء الكيان آنذاك “ابن غوريون” قائلا خلال كلمة افتتاحه: “إنني أحلم بأساطيل داود وسليمان تمخر عباب البحر الأحمر”، ويقول: “إننا محاصرون برياً، والبحر هو طريقنا الرئيس للمرور الحر إلى يهود العالم وللاتصال بالعالم” وهو ما يؤكد رغبته في السيطرة البحرية في الجنوب التي تجلت في تصريح مسجل له سنة 1933 عندما قال: “إن العقبة وموقع إيلات التاريخي (أم الرشراش) سيسمح لنا بالتمركز في الخليج (العقبة) والبحر الأحمر” كما كتب في سنة 1934م لزميله القاضي (برانديز) في المحكمة الأمريكية العليا: “سيكون لنا طريق مائي مفتوح إلى المحيط الهندي وأكبر قارة في العالم من خلال خليج (إيلات) والبحر الأحمر.
وفي عام 1956 قال قائد بحرية الكيان الإسرائيلي السابق كانستلون: “نحن نملك أسطولاً بحرياً ضخماً يعمل في كافة موانئ العالم، ولهذا علينا أن نعد العدة في المستقبل كي تستطيع أساطيلنا البحرية والحربية أن تحطم الحصار العربي المفروض علينا، وأن نفرض الحصار بدورنا على الدول العربية بشكل أقوى مما فرضوه علينا، عن طريق تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة يهودية”.
وقد عمل الاحتلال على ترسيخ ربط “كيانه” بالبحر الأحمر من خلال ميناء أم الرشراش “إيلات”، الذي ظل خاملاً لخمس سنوات منذ افتتاحه، إثر إغلاق خليج العقبة في وجه ملاحتهم خلال فترة حرب 1948، تعرضوا فيها للمقاطعة التجارية وإغلاق قناة السويس ومضيق تيران وصنافير وشرم الشيخ المصرية، انعكس ذلك على اقتصادهم الذي كاد أن يفلس بشكل نهائي لولا الدعم الغربي خصوصا ألمانيا بعد اتفاقية “لوكسمبورغ” سنة 1953 التي زودتهم بدفعة تعويضية عن ضحايا الهولوكوست قدرها 3 مليار دولار.
وقد نجح الكيان منذ ستينيات القرن الماضي في استثمار علاقته مع إثيوبيا قبل انفصال إريتريا عنها، بالحصول على موطئ قدم في جزيرة “دهلك” في البحر الأحمر عام 1975م وتحويلها كأول قاعدة عسكرية للرصد والاستطلاع، وذلك بعد فشله في الاستيلاء على جزيرة ميون الاستراتيجية الواقعة في متوسط مضيق باب المندب من الساحل اليمني عبر الاحتلال البريطاني أو من خلال محاولة المطالبة بتحويلها إلى ممر دولي سنة 1966، لكنه عمد إلى اعتماد سياسة استئجار الجزر الإريترية مثل “حالب وفاطمة” الواقعتان في الجنوب الغربي، ثم “سنشيان ودميرا” التي تعتبر هذه الأخيرة الأقرب إلى باب المندب، بعد إيقانهم أن اليمن برجاله سد منيع عند استقلالهم واسترجاع سيطرتهم على منافذ البحر الأحمر وجزرهم المهمة ومحاولات التصدي لهذه الأطماع الاستعمارية عبر مطالبات الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي لدول البحر الأحمر بإنشاء قواعد عسكرية عربية مشتركة لإيقاف الملاحة البحرية للكيان الصهيوني سنة 1973 وامتداد سيطرته على الجزر الإريترية التي تشكل خطرا حقيقيا ورغبة يهودية في تحقيق الحلم، لكن المطالبات عجلت باغتياله.
والحقيقة أن بن غوريون ومن لحقه من القادة قد أسسوا إطارا نظريا عاما للأمن القومي الإسرائيلي، بما يتوافق مع توجيهات الزعيم الروحي لليمين المتطرف في الحركة الصهيونية “زئيف جابوتنسكي” الذي أوردها في مقال حمل عنوان “الجدار الحديدي”عام 1923، لاسيما مقولته المعروفة بــ: “أن التوصل إلى اتفاق مع العرب غير ممكن، لأنهم لن يتخلوا عن أرضهم وحقوقهم، وبالتالي فإن الصراع معهم أمر حتمي”، ثم أردف مضيفا بقوله: إنّ السلام مع العرب سيصبح ممكناً فقط بعد إلحاق هزائم عسكرية قاسية بهم؛ ما يدفعهم إلى تقبّل وجود “إسرائيل”، والاقتناع بعدم جدوى مقاومتها عسكرياً.
ولا يمكن الاستغراب بعد الآن من رغبة الكيان الإسرائيلي في القتال من وراء الجدران، كالجدار الحديدي الذي أنفق على بنائه حول قطاع غزة لمحاصرته زهاء ثلاث سنوات ونصف ما يفوق المليار دولار، وقادته يتبنون تصورات زعيمهم جابوتنسكي الذي اعتبر أنه: “ثمة ضرورة لإقامة جدار حديدي من قوة عسكرية رادعة، تبنى لإلحاق هزائم عسكرية قاسية بالعرب، وبما يكفي لتوليد اليأس في قلوبهم ودفعهم إلى التنازل عن فلسطين، وتقبّل وجود إسرائيل، وإقناعهم عبر الهزائم بعدم جدوى مقاومتها عسكرياً؛ حينها سيصبح السلام مع العرب ممكناً”.
لكن طوفان الأقصى للمقاومة الفلسطينية في غزة قد جرف الجدار في السابع من أكتوبر ليتبين أنه أوهن من بيت العنكبوت، وقد نسفته أيد المقاومة التي أثبت قدرة ردع فائقة وضربة قاضية لركائز الأمن القومي من تفوق استخباراتي وحسم سريع ودقيق في الرد على الهجمات، حيث تكسرت أمام صخرة الصمود الفلسطيني الذي دفع برجال اليمن إلى دخولهم غمار الطوفان بمسيراتهم وصواريخهم أنصارا للمقاومة الباسلة في غزة، وقد أعلنوا على المندب كحراس للبوابة الجنوبية أنهم شيدو سفنهم الحربية كقاعدة حصار وخنق الاقتصاد الصهيوني، وقد أصبح وجودهم الآن معادلة صعبة على الغرب وحتى الأنظمة العربية المطبعة والمتعاطفة مع الكيان الإسرائيلي الذي جيش ضدهم حلفا يضرب أراضيهم، واستطاعوا الصمود زهاء عقد راكموا خلاله تجارب قتالية بنفَس طويل بعد أن نالوا إجماع الشعب اليمني بضرورة الاصطفاف خلف غزة نصرة للأقصى وفلسطين، وهو ما تثبته القوات المرابطة على المضايق البحرية والجزر من مناورات عسكرية تحكم بها قبضتها على البحر الأحمر، ويعدون العدة لمواجهة حاسمة ضد تحالف الدول التي عزمت بقيادة الولايات المتحدة على محاولة كسر عزيمتهم وعسكرة الممر البحري بتحويله ممرا دوليا يخدم الأطماع الصهيونية.
وعلى الرغم من توالي عقد على تحالف الدول ضد رجال اليمن، الذي حول المنطقة في حالة عدم الاستقرار، وأثقل شعوبها التي تعاني البؤس الاقتصادي والاجتماعي وغياب الأمن في بعض المحافظات من خلال ميليشيات مدعومة خارجيا، ورغم ما يمثله البحر الأحمر من أهمية حيوية للمستعمر الجديد الذي يسعى لتحقيق مكاسب كبيرة على البحر الأحمر عن طريق حلفاء من المنطقة العربية يضمن بمواردهم الرهان في تحويل أطماعه تغوص في مياه الأحمر وتطفو فوق مياهه، بينما يدفع المحتال بقطع مجموعته لتغرق حقوق الدول البحرية ومعها آمال شعوبها برفاه اقتصادي وسياسي في ظلمات البحر وعمقه. لكن ورقة الرهان صعبة أمام الشعب اليمني الذي خبر الحروب وواجهها بشجاعة عربي أصيل، ولم يبق لرجاله سوى مواصلة الصمود والالتفاف حول بوصلة التحرر الفلسطيني من عدوان الاحتلال على غزة ورجالها، وقد أرسلوا للعدو رسائل تحمل معادلة شاقة تحمل شعارها الدائم: “إلى غزة التي تفدي الأقصى، هنا اليمن..وليكن بعدك الطوفان.”