الأسطورة وأهميتها في الوجود الإنساني

2٬849

لا شك أن ميثولوجيا الشعوب القديمة وصلتنا عبر مصادر متعددة، حلّت مكانها كالكتب المقدسة وكتب التاريخ والمعاجم بتباين أنواعها، وبالتالي نسلم أن لكل شعب من الشعوب أساطيرها وخرافاتها الخاصة بها، والواقع أنّ ثمة تداخلا واضحا بين هذه الأساطير، والأسطورة الواحدة تزهر وتتشعّب لتنتقل من حضارة إلى أخرى، فمثلا، لا شك أن لأسطورة شهرزاد وشهريار، بُعدًا اجتماعيا وسياسيا وفكريا في التاريخ، الذي يمتد إلى الحضارات الهندية والفارسية والعربية.

على الرغم من أن هذه القصص تدور في قوالب غريبة ذات طابع خيالي، إلا أنها دليل واضح على ذكاء الإنسان القديم (الحكيم). من نافِلةِ القَوْلِ، أنّ الأسطورة كانت سبباً رئيسياً في تجرّع سقراط Socrates السم جزاء تجاسره على آلهة اليونان، وقد أدى تطور المعارف والعلوم مع مطلع العصور الحديثة، إلى التهاون والإساءة الكاملة للأسطورة، وإنزالها مرتبة الحكاية المسلية، إلا أنه في القرن التاسع عشر -الذي عرف ثورة فنية فكرية وجمالية على الصعيد الغربي- مُنح للأسطورة رونقا جديدا يظهر جليا في التراث الشعبي أو الفلكلور Folklore. وربما يبرز هنا إشكال مفاده؛ ما علاقة الفلسفة بالأسطورة؟

في السابق، كانت مهمة الفلسفة هي شرح المبادئ الأولى لوجود الكون، وأسراره، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وهي عَيْنها الموجودة في الأساطير التي تعالج هذه المشاكل، من خلال عملية الانتقال من الصور التخيلية إلى القوة الخارقة للطبيعة. لكن، مع مرور الزمن اتخذت الفلسفة نهجا مختلفا تجاه هذه المشكلات على أنها؛ فكرة العقل الكوني، لتظهر الفلسفة كتفكير جديد في مواجهة الفكر الأسطوري، ليتم بذلك إعلان موت الميتوس Mythos والتصور المنغلق المبني على الخرافة، في مقابل إعلاء  اللوغوس logos القائم على العقل والمنطق. وبالتالي، تحاول الأساطير الإجابة عن الجوانب الأساسية للتقاليد والمعتقدات، بينما تحاول الفلسفة الإجابة عن الطبيعة الأساسية للمعرفة والواقع.

دائما ما تحاول الأساطير الإجابة عن أصعب الأسئلة وأبسطها في الوجود البشري: من أنا؟ من أين أتيت؟ لماذا أنا هنا؟ ما هو مصيري؟ بالنسبة للقدماء كان معنى القصة هو الأهم، وليس الحقيقة الحرفية لتفاصيل حكاية معينة. وجدير بنا أن نمهد أن الأساطير تتناقل من جيل إلى جيل، وتتطور تدريجيا لتتخذ نسخا متعددة، وروايات مختلفة، فيكون منبعها الأساسي هو الخيال الشعبي، وبالتالي من خلال الأساطير اللامرئية هناك محاولة مرئية لشرح أصل العالم، وإعطاء معنى للوجود، حتى أن في العصور الكلاسيكية كانت معرفة الناس ببعض أسرار العالم أسمى أشكال المعرفة (الحكمة). كما يمكن القول إن هذه الأساطير البدائية تميزت في المقام الأول؛ بمواضيع مُعَسْعِسَة ومزعجة مثل الدمار والوحوش والرعب والموت…وغير ذلك.

من الملاحظ أن الأساطير البدائية تعتبر بمثابة رسم خط تاريخ الإنسان الحديث والمعاصر منذ البدايات الأولى لتشكل المجتمعات، تحكي قصص الأسلاف وأصل البشر والعالم والآلهة والكائنات الخارقة للطبيعة (حوريات البحر، الساتير…)، ومن الملاحظ أن لا فرق فيها بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، بل أبعد من ذلك، حتى الأشياء الجامدة التي تفتقر للحياة، كالأحاسيس والمشاعر وكل ما يشكل العالم الداخلي للإنسان، نجدها في حكايات هذه الشعوب قادرة على النطق والتفكير على الشاكلة الإنسية، وهذا ما يضفي عليها طابع التشويق والمتعة، وكنز من الأفكار المليئة بالحكم. ومن الأمثلة على ذلك؛ نجد بعض الشعوب تعتقد أن الشمس تذهب للصيد، والقمر يقع في مصيدة، وما الغيوم إلا دخان غلايين الآلهة، وإرجاع ظاهرة الرعد والبرق إلى غضب الآلهة كوسيلة لعقاب البشر.

لا يمكن أن ننكر أن ما يسميه المرء “الأساطير” في عصرنا الحالي، كان دين الماضي القديم؛ حيث خدمت القصص التي تشكل مجموعة الأساطير القديمة، باعتبارها المخزن الأساسي لأصل معرفتنا، نفس الغرض للناس في ذلك الوقت، مثل القصص المأخوذة من الكتاب المقدس المقبول للناس اليوم. وفقا لعالم النفس السويسري كارل يونغ Carl Jung؛ فإن الأسطورة هي جانب مهم من جوانب النفس البشرية، التي تحتاج إلى إيجاد معنى وترتيب في عالم غالبا ما يقدم نفسه على أنه فوضوي، ومشوّش ولا معنى له. ولأن الإنسان تستعصي عليه دراسة الكون الذي تتجاوز قوته العقلانية، نظرا أن المحدود لا يمكنه تصور وفهم اللامحدود، وقد اعتبر يونغ اللامحدود على أنه الصفة المميزة للغامض، والتي تضفي معنى للوجود البشري. ولعل الميثولوجي الأمريكي جوزيف كامبل Joseph Campbell)‏ هو نفسه يستعيد الأسطورة من وجهة نظر علم النفس، مبرزا أن الأساطير هي النواة الأساسية لكل حضارة، وأساس وعي كل فرد، فالأسطورة بما هي ملفوفة بطبقات متعددة من المعاني، دائما ما تقدم نموذجا يحتذى به في رحلة الفرد عبر مناحي الحياة.

في ظل ما تقدم، يمكن القول إن هناك العديد من الأنواع المختلفة من الأساطير، يمكن أن نُجملها في ثلاث: الأساطير المسببة، الأساطير التاريخية والأساطير النفسية. يشرح النوع الأول سبب وجود شيء معين على ما هو عليه أو كيف أصبح مثلا: أسطورة الآلهة Nuwa التي استمرت في خلق البشر مرارا وتكرارا حتى تعبت، وأرست ممارسة الزواج حتى يتمكن البشر من إعادة إنتاج أنفسهم. أما النوع الثاني، فيعيد سرد حدث من الماضي، ولكنه يطغى عليه نوع من الخيال (حتى لو كان حدثا فعليا)، وقد نجد ذلك في رواية الشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس، حول حصان طروادة وسقوطه كما هو موصوف في الملحمة التي تُدعى الإلياذة. في حين تُقدم الأساطير النفسية تذكرة الرحلة من المعروف نحو المجهول، والتي -وفقا ليونغ Jung وكامبل Campbell- تمثل حاجة نفسية لموازنة العالم الخارجي مع وعي الفرد الباطني.

تتضمن هذه الأساطير عادة بطلا أو بطلة في رحلة يكتشفون فيها هويتهم الحقيقة أو مصيرهم، وبذلك يساعدهم على حل أزماتهم النفسية، بينما يزودون العامة ببعض القيم الثقافية المهمة. ومن القصص التي تنتمي لهذا الصنف هي خرافة الأمير أوديب Oedipe، التي ذاع صيتها في علم النفس، خاصة مع الفيلسوف النمساوي سيجموند فرويد Sigmund Freud في كتابه تفسير الأحلام، أوديب الذي يسعى لتجنب التنبؤ؛ بأنه سيكبر لقتل أبوه، ما فتئ أن ترك حياته السابقة وسافر لمنطقة أخرى أملًا في الهروب، لكنه سيقع في المحظور، وسينتهي به المطاف دون علم بقتل الرجل الذي كان والده الفعلي، الذي تخلى عنه عند الولادة، في محاولة للتحايل على نفس التنبؤ.

وصفوة القول، إن كل ثقافة في العالم لديها ولا تزال نوعا من الأساطير، وعليه، تعتبر الأساطير الكلاسيكية للإغريق والرومان القدماء الأكثر شيوعا لدى الناس في الغرب، لكن الزخارف الموجودة في تلك القصص يتردد صداها في جميع أنحاء العالم، على سبيل المثال لا الحصر حكاية بروميثيوس prometheus اليونانية، جاذب النار ومعلم الإنسانية، تتردد في الحكاية الصينية لفوكيس وما إلى ذلك.

1xbet casino siteleri bahis siteleri