محكمة الأرض
تعتبر الخطوة التي أقدمت عليها دولة جنوب أفريقيا بإقامة دعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية من الفصول الجديدة في القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. وهي بحق حدث تاريخي، جعل دولة الاحتلال تحاكَمُ من أجل جريمة الإبادة الجماعية لأول مرة في تاريخها، وإن كانت الأفعال المكونة لها لا تُرتكب للمرة الأولى، وكان يجب أن تُحاكم من أجلها منذ سنوات، ولكنّ هذه الخطوة كانت تحتاج إلى دولة تقوم بها، ومفروضٌ أن تكون المجموعة العربية في الأمم المتحدة هي التي تباشر هذا الإجراء، وتنال شرف هذا الواجب، لأنه واجب متعين في حقها. لكن هذه الدول، كما هو معهود عليها، تقاعست عن ذلك، وظل الكيان يتصرف كما يحلو له، ويرتكب من الجرائم في حق الإنسانية ما لا يقع تحت حصر منذ بداية الاحتلال وإلى اليوم.
إن تحريك مسطرة المتابعة القضائية أمام محكمة العدل الدولية من شأنه أن يَنقل النقاش حول الحرب والعدوان من الجانب العسكري إلى المستوى القانوني، ولذلك سنحتاج أن نتوقف عند مفهوم الإبادة الجماعية كما صيغت في القانون الدولي. وككل الجرائم، فإن لجريمة الإبادة الجماعية أركانا، لا تتحقق إلا بتوفرها، وهي الركن القانوني والركن المادي والركن المعنوي.
يتمثل الركن القانوني في النص المجرم لها والمعاقب عليها، وهي اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي تم إقرارها وعرضها للتوقيع والمصادقة عليها بتاريخ 09/12/1948، ودخلت حيز النفاذ بعد استكمال الإجراءات بتاريخ 12/01/1951.
وأما الركن المادي فيتجلى في الأفعال التي حددتها المادة من الاتفاقية، والتي عرفت هذه الجريمة، إذ تنص على أنه: ” تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
( أ ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
( ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
( د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
فإنه بارتكاب أي فعل من الأفعال المشار إليها من البند أ إلى البند هـ، يتحقق الركن المادي لهذه الجريمة.
وأما الركن المعنوي الذي يُشكل القصد الجنائي، فهو وجود نية أو قصد إلى تدمير مجموعة عرقية أو إثنية أو وطنية بصفتها هذه؛ أي أن يكون القصد من ارتكاب تلك الأفعال المشكِّـلة للركن المادي هو القضاء على جماعة إثنية أو عرقية أو وطنية، لكونها تتصف بتلك الصفة في ذاتها. ويبقى هذا الركن هو الأصعب في الإثبات، باعتبار أن أفعال التدمير والقتل العمدي والتهجير القسري تبقى واضحة متحققة في العدوان على غزة، لكن إقناع قضاة المحكمة بأن القصد من تلك الأفعال هي القضاء على الوجود الفلسطيني وتهجيرهم من القطاع يبقى أمرا بالغ الصعوبة بالمفهوم القانوني، وإن كانت النيات الإسرائيلية بارزة لكل ذي طبع سليم، إلا أن التعقيدات القانونية في الإثبات الجنائي من شأنها أن لا تكون بتلك السهولة التي قد نعتقد.
ومهما يكن، فإن هذه الخطوة تبقى جديرة بالتنويه، لأنها تعني الولوج إلى جانبٍ مخصوص كان الصهاينة هم الذين يهتمون به في وقت سابق، والمتمثل في الجانب القانوني. وهو أمر طبيعي باعتبار أن المجرم دائما هو أكثر اهتماما بالقانون، وإسرائيل كانت تحاول الاستثمار في الثغرات القانونية وفي الفراغ التشريعي الذي يُحيط ببعض الأفعال، إن من حيث تحديد الأركان أو من حيث وسائل الإثبات. وهم على الدوام يحاولون أن يروجوا عن أنفسهم بأنهم يحكمون بالقانون، وليسوا محكومين بالقانون. ومقاضاتهم أمام محكمة العدل الدولية ستجعلهم متخوفين بشكل دائم من اللجوء إلى هذه المحكمة، والذي يؤثر بشكل سلبي على سمعتهم أمام شعوب العالم. وهذا من شأنه أن يَحملَهم على تفادي ارتكاب بعض الأفعال، كالقوانين الجنائية تماما في الدول المحلية، فهي لا تحول دون ارتكاب الجرائم، ولكن بدونها ستَفشو الجريمة بشكل مهول.
لكن يبقى السؤال: لماذا جنوب أفريقيا هي التي تجرأت UGN على اتخاذ هذه الخطوة دون سائر دول العالم وفي مقدمتها الدول العربية؟ لا يمكن فصل ما تقوم به جنوب إفريقيا عن تاريخ العلاقة بين البلدين، فمعلوم أن إسرائيل قامت بدعم حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ماديا ومعنويا، بحيث كانت تبيع لها السلاح، وبالأخص بعد استقلال الموزمبيق وأنغولا عن البرتغال في منتصف الستينيات. ففي هذا الوقت، كانت جنوب أفريقيا متخوفة من الأنظمة القادمة في هذه الدول، والتي كان لديها نمو اقتصادي كبير، أكثر من جميع الدول باستثناء اليابان، حيث تراوحت نسبته ما بين 5 إلى 10 في المائة، وكانت رائدة في تصدير الفحم والذهب. إلا أنها كانت تواجه عقوبات دولية، جعلها دولة معزولة في العالم، وامتنعت الدول الكبرى من بيع السلاح لها، والذي كانت في أمس الحاجة إليه. وقد استثمرت إسرائيل في هذه الحاجة، حيث قام وزير الدفاع الإسرائيلي بزيارة سرية إلى جنوب أفريقيا، بقصد إيجاد قنوات تواصل للتعاون العسكري وعقْدِ صفقات السلاح، ومن ثم أصبحت إسرائيل تبيع السلاح لحكومة الميز العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما أسهم إطالة أمد هذه الحكومة لوقت طويل.
وارتباطا بهذا السياق، تم الإفراج عن نيلسون مانديلا في سنة 1990، ليكون في صدارة الأنشطة التي قام بها هو اللقاء مع ياسر عرفات، وذلك في نفس السنة. وقد وصفه في مقابلة مشهورة نُقلتْ على شاشة بي بي سي نيوز بأنه رفيق السلاح. ولم تمض إلا ثلاث سنوات، ليتم منحُ حق التصويت للسكان من ذوي البشرة السوداء، والذين سيُسهمون في فوز مانديلا برئاسة الجمهورية، ليكون أول رئيس ببشرة سوداء يقود البلاد. ومنذ حينها وجنوب أفريقيا لا ترى في إسرائيل إلا ذلك الكيان الداعم لحكومة الميز العنصري. ولذلك ما فتئت تُعلنُ مواجهتها ومعاداتها لدولة الكيان، وكانت في صدارة الدول التي وقفت ضد فكرة منح إسرائيل صفة المراقب في الاتحاد الإفريقي، وعملت جاهدةً إلى تم طردها من الاتحاد الإفريقي بتلك الصفة. وبذلك فإن لجوء جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية واتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، يأتي في هذا السياق، أعني سياق التوتر في العلاقات بين الدولتين لأسباب تاريخية من جهة، ولأسباب سياسية واقتصادية من جهة ثانية.
نعم، قد لا يكون مهما أن نبحث في الأسباب الباعثة على اتخاذ جنوب أفريقيا لهذه الخطوة، بقدر ما يُهِم أن نتساءل: هل هناك فائدة مرجوة من هذه الخطوة أصلا؟ في الواقع، الجواب البسيط الذي يمكن أن نقدمه، ويقدمه الكثير من الناس هو النفي، أعني أنه لا فائدة تُرجى منها؛ ذلك أن هذه المحكمة بما أنها تابعة للأمم المتحدة التي لا دور لها من دون مجلس الأمن، ومع استحضار أن هذا الأخير أصبح رهينة للفيتو الروسي الصيني من جهة، والفيتو الأمريكي من جهة أخرى. فاعتراض أي دولة من هذه الدول على أي قرار يُزمع مجلس الأمن على اتخاذه يُنقضه ويُعدمه في مهده، ويحول دون اعتماده. وبالنتيجة، فأي منظمة يقتضي تنقيذ قراراتها المرور من بوابة مجلس الأمن، فإن تلك القرارات لا تُساوي الحبر الذي كتبت به، أو الورق الذي سُوّدت عليه.
وهذه الإجابة يتبناها الكثيرون، ورأينا أصداءها خلال الأيام التي سبقت أو لحقت جلسات المحاكمة. لكن الذي أراه شخصيا أنه لا ينبغي أن نُهوّن من دور هذه الخطوة، مهما كانت ضآلة تأثيرها، أو مهما كان الأمل والرجاء في أن تُحدث أي تغيير على الأرض لمصلحة الفلسطينيين؛ ذلك أن أي خطوة من شأنها أن تُحرج الكيان الصهيوني، وأن تُسوّد وجهه أمام شعوب العالَم فيجب أن نباركها ونشكر المُقْدِمين عليها، وأي منبر من شأنه أن يؤذي العدو بشكل من الأشكال فإنه يجب استثماره.
طبعا، لسنا ساذجين لكي نتوهم أن المنظمات الدولية يمكن أن تعيد للفلسطينيين حقوقهم بالشكل الذي نرجوه ونريده، ولكن في المقابل يجب الاعتراف بأنه من دون هذه المنظمات الوضع سيكون أسوأ، وبأنها توفر أدوات مهمة للتفاعل، لإحداث ولو بعض التغيير البسيط في واقع الميدان.
وعلى كل حال، فإنه بالرغم من وجود محاكم أخرى، يمكن مقاضاة مرتكبي الجرائم الخطيرة ضد الإنسانية أمامها، كالسلطة القضائية المحلية في أي دولة، والتي يُسند إليها القانونُ الدولي الاختصاصَ في بعض الجرائم على قدر من الخطورة، وإن لم يتم ارتكابها على أراضيها، فإن محكمة العدل الدولية تبقى أكثر أهمية وجدوى، بفضل الزخم الإعلامي الذي يصحب محاكماتها من جهة، وبحكم أن قراراتها ملزمة للدول التي صادقت على اتفاقية إنشائها، رغم أن المسطرة طويلة ومعقدة جدا، وتقتضي تدخل مجلس الأمن كما سبق أن بيّنّا. ويتجلى هذا التعقيد في أمرين فيما يخص حالة الكيان الصهيوني، الأولى تتمثل في صعوبة إثبات عدم قانونية الاحتلال، والثانية في صعوبة ثبات وجود الاحتلال في حالة هجوم وعدوان، لتترتب الإدانة بعد ذلك. وأقصد هنا بالإثبات الإثبات القانوني المقبول، وإلا فنحن مقتنعون غاية الاقتناع بأن الاحتلال جريمة، وأن ما يقوم به على الأراضي الفلسطينية هي جرائم ضد الإنسانية كاملة الأركان.
ورغم هذه الصعوبة، فإن جنوب أفريقيا قام بتفعيل المادة التاسعة من معاهدة منع الإبادة الجماعية. وتفعيل هذه المادة يعني الطلب من محكمة العدل الدولية التصريح بفشل إسرائيل في منع الإبادة الجماعية، وأنها قامت عن قصد بارتكاب الإبادة الجماعية والتحريض عليها، ودعت إلى إدخال دول لم تذكرها بأسمائها، من شأنها أن تكون متواطئة معها في ذلك. فبتاريخ 11 و12 يناير، كانت المطالبة أولا بتدابير مؤقتة، ويُنتَظر بعدها أن يصدر قرار من المحكمة بإيقاف النار، وغالبا سيتم إصدار القرار خلال أسابيع، والمتوقع أن إسرائيل لن تستجيب لمضمون القرار، ولكن سيكون على الأقل عامل ضغط عليها. وبعد ذلك يتوقع أن تنظر في الأسس الواقعية للدعوى وتبت فيها وفقا للقانون الدولي، والقول بأن إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة أم لا، وهل توفر عنصر القصد الجنائي أم لا، وهل حرضت عليها على الإبادة الجماعية أم لا؟
ولِتبيِين أهمية هذه الخطوة والخطورة التي استشعرتها إسرائيل من ورائها، يكفي أن نستحضر أن إسرائيل على العموم كانت تقاطع المحكمة الدولية، وكانت تستخف بمحاكماتها، لكنها هذه المرة وجدت نفسها لأخذ الأمر على محمل الجد، لأنها متخوفة من الإدانة، ولذلك أرسلت محاميها للمرافعة عنها. وسبب ذلك أن هذه الجريمة هي أسوأ جريمة في هرمية الجرائم التي يمكن أن تُوجَّه إلى الدول. وأي دولة أُدينت من أجل هذه الجريمة ستتلطخ سمعتها، وستتحرج الدول من التعامل معها بشكل معلن، لخوف الحكومات من مواقف شعوبها من التعامل مع دولة مدانة أو متهمة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، كما وقع لصربيا وميانمار وكمبوديا. فقرارات المحكمة المذكورة ليست عديمة القيمة، بل تُحدث بعض التأثير في بعض القضايا، كالقرارات التي أصدرتها ضد بريطانيا في ارتباط ببعض الجزر، واعتبار المقتولين في حرب رواندا ضحايا الحرب، وإدانة صربيا بالفشل في منع الإبادة الجماعية في البوسنة، وقرارات أخرى.
وختاما، فإنه لا يمكن تجاهل أن هذه المنظومات تبقى نتاجا استعماريا، لا يتوقع منها الكثير. لكن بالرغم من هذا المعطى، فإن الواجب المتعين هو السعي إلى إصلاحها وليس إلى نسفها بالكلية، لأنه بدونها سيكون الوضع أسوأ بكثير. وفي انتظار ذلك، يبقى اللجوء إلى هذه المنظمات وسيلة ضغط وإحراج أمام العالَم. ولعله يكفي أن نتأمل في ملامح وجه مندوبة أمريكا في المجلس وهي ترفع يدها للتصويت ضد مشروع القرار الرامي إلى وقف إطلاق النار في غزة. ملامح وجهها تَكشف أنها تَشعُر أنها تقوم بفعل شنيع، يبعث على الشعور بالعار.