أسباب التخلف وعوامل التقدم: نظرات حول كتاب أم القرى للكواكبي
لما ضاقت سبل العيش بعبد الرحمان الكواكبي بالشام وحاصرته زبانية المستبدين اضطر إلى الفرار إلى مصر، لكنه جرد من قلمه سيفا يواجه به أعداءه، وجعل من كلماته رصاصا يقض به مضجع المستبدين. وقد بدأ بنشر مقالات كتابه “طبائع الاستبداد” فحظي بشهرة واسعة، وذاع صيت الكواكبي، ولم ينل كتابه الثاني حظه من هذه الشهرة رغم أنه كتاب بسط فيه آراءه الإصلاحية، ونقده لعوامل التخلف وحالة الضعف والفتور العام الذي شل حياة المجتمعات العربية والإسلامية.
وغرض هذه المقالة هو تسليط الضوء على هذا الكتاب والوقوف على الدواء الذي شخصه الكواكبي لداء التخلف الذي ينخر كيان الأمة قاطبة.
الكواكبي مفكر حرك المياه الراكدة بقلمه:
لم يرض الكواكبي أن يكون مفكرا منظّرا يعيش منعزلا في برجه العاجي منزويا عن هموم الشعوب، بل سخر قلمه ومكانته الاجتماعية للدفاع عن المظلومين في تلك الفترة التي عاش فيها (1855م/1902م) فقد تقلد كثيرا من المناصب والوظائف، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يعبر عن أفكاره بحرية، ولم تثنيه تلك المناصب عن أداء وظيفته الإصلاحية، بل دفع حريته وكل ما يملك ثمنا لهذا الطريق الذي سلكه، فلم يكن مثقفا -شأن المثقفين والنخبة في زماننا- يرضيه الفتات عن توجيه جهوده لإصلاح مكامن الخلل والوقوف بجانب المضطهدين.
ونظرا للظرفية التاريخية التي ألف فيها كتاب “أم القرى” فإن الكواكبي اختار طريقة ذكية في تدبيج آرائه في الكتاب، إذ بناه في قالب حكائي حواري، يتبادل فيه المتحدثون أطراف الحوار في ما بينهم، ويتولى هو إدارة دفة الحوار.
ونركز في هذه المقالة على الأفكار التي نراها ترتبط أشد الارتباط بالتخلف الحضاري والفكري الذي ينطبق على العصر الذي نعيش فيه، مع تجاوز بعض القضايا التي ذكرها الكواكبي وتناسب تلك الفترة التي ألف فيها الكتاب، خاصة ما ارتبط بأحوال الدولة العثمانية وعلاقته بها.
جولة في أفكار الكتاب:
لما كانت غاية الكواكبي أن يسود العدل والمساواة والحرية جميع الأقطار العربية والإسلامية، فقد جعل من هذا الكتاب وثيقة لتوضيح أفكاره وآرائه. ولما كان هذا الهم الإصلاحي لدى الكواكبي مشروع أمة لا ينهض به فرد واحد، بل مجهود يحتاج إلى أن تشحذ الهمم لتحقيقه، وتتكاثف الجهود لإنجازه، قرر أن يكون أول هدف يتحتم تحقيقه هو إنشاء جمعية تتداول في شأن أسباب التخلف ومكامنه، وتبحث عن سبل للتقدم، وهذه الجمعية رمز لما ينبغي أن يكون عليه حال الأمة من الاجتماع والاتحاد.
واختار الكواكبي “مكة” مكانا لعقد أول مؤتمر؛ لقدسيتها ومكانتها الدينية والحضارية، وقد مهد لتهيئة عقد هذا الاجتماع بسياحة في الأقطار العربية ليطلع على أحوال البلاد والعباد، ويختار من كل قطر من يراه مناسبا ومهتما بأحوال الأمة لحضور الاجتماع ليمثل بلده ويبدي رأيه في ما آل إليه الحال.
ولما وصل الموعد المحدد واختير المكان المناسب لانعقاد المؤتمر، عقدت الجمعية أول اجتماع لها برئاسة الأستاذ المكي، وحضور الأعضاء وعددهم 22 عضوا، فعرف كل واحد بأخيه واختار لهم من الأسماء ما يلي: السيد الفراتي (الكواكبي)، الفاضل الشامي، البليغ القدسي، الكامل الإسكندري، العلامة المصري، المحدث اليمني، الحافظ البصري، العالم النجدي، المحقق المدني، الأستاذ المكي، الحكيم التونسي، المرشد الفاسي، السعيد الإنجليزي، المولى الرومي، الرياضي الكردي، المجتهد التبريزي، العارف التاتاري، الخطيب القازاني، المدقق التركي، الفقيه الأفغاني، الصاحب الهندي، الشيخ السندي، الإمام الصيني.
وهي شخصيات تخيلها الكواكبي تمثل كل منها بلدا من البلدان الإسلامية، وخصص:
-الاجتماع الأول: للتعريف بسبب الاجتماع، ثم تدارس وتباحث حالة الضعف العام والخلل الذي اعترى حالة المسلمين، وجعلهم يتأخرون عن ركب الحضارة الإنسانية بعد أن كانوا في المقدمة، وسادوا قرونا عديدة. وخلصت المناقشات والمباحثات إلى أن هذا الفتور العام يتحمل فيه كل فرد مسؤوليته، ويتحمل الجزء الأكبر منها أولوا الشأن والعلماء؛ إذ لم يقوموا بمهمتهم في سبيل النهوض بالأمة.
-الاجتماع الثاني (الداء أو الفتور العام): بعد إقرار الجميع بحالة الضعف التي تعيشها الأمة آن الأوان لبحث أسباب هذا الضعف، وأوجه هذا التخلف؛ فالأسباب متعددة والنتيجة واحدة، هي تقدم الغرب وتأخر المسلمين.
تبادلت الآراء وتلخصت الأسباب في ما يلي:
تبني العقيدة الجبرية والتسليم للأمر الواقع ”والترغيب في أن يعيش المسلم كميت قبل أن يموت” وغيرها من المثبطات والمخدرات المعنوية، وهو ما حذا بالكثيرين إلى الاستسلام والانهزام، “وحيث غلب أخيرا على المسلمين جهل أسباب المسببات الكونية، والعجز عن كل عمل، التجؤوا إلى القدر والزهد تمويها لا تدينا”.
سبب البلاء هو فقد الحرية: حرية التعليم وحرية المباحثات العلمية، والعدالة بأسرها.
تشويش الدين والدنيا على العامة لعدم وضوح حقيقية التدين في النفوس وقصور العلماء في تعريفهم الناس بهذه الحقيقة.
-الاجتماع الثالث: لما كانت بعض الأسباب التي أبداها المجتمعون ليست سببا عاما للفتور، وتعلقها ببعض الأقطار دون بعض فلا بد إذا من مواصلة البحث والتفتيش عن مزيد من الأسباب العامة التي أدت لحالة الضعف العام. ومنها:
إهمال بعض العلوم الطبيعية التي بدت من دون حاجة لها فيما مضى، لكنها أصبحت ضرورية إذا أردنا التقدم، والنهوض من رقدة التخلف.
اغترار الناس بالأمجاد السابقة وما حققه الأسلاف جعلهم يركنون إلى الدعة والخمول، فيما حاول غيرهم مجاراتهم فتقدم وتفوق، وتركهم في أسفل السلم مستسلمين لليأس.
غياب القدوة الحسنة، وعدم قيام نخبة المجتمع بدور التوجيه والإرشاد لعموم الأمة.
استحكام الفقر الذي تتولد منه كل الشرور: كالجهل، وفساد الأخلاق، والتشتت في الآراء، وينتج عن هذا حتى فقد الإحساس بما يجري في المجتمع، وأسباب الفقر معلومة: ابتعادنا عن منهج الشريعة التي تجعل في أموال الأغنياء حقا يوزع على الفقراء عن طريق الزكاة.
أبدى أحد المتدخلين (الإمام الصيني) ملاحظة وهي: أن هذه الأسباب أشبه بالعوارض منها بالأسباب، فهي تصلح أن تكون دواء للداء والأهم أولا هو معرفة سبب الفتور، فأجابه (العالم النجدي) أن ما يراه هو سببا للفتور: عدم فهم حقيقة الدين نفسه. وهو موضوع الاجتماع الثالث: وما والاه من الاجتماعات التي فصل فيها المتحاورن حقيقة التدين وأسباب الغلو والانحراف.
ومجمل القول فإنه يمكن إرجاع أسباب الضعف والفتور العام إلى أنواع متعددة من الأسباب، فمنها:
- أسباب دينية: تأثير عقيدة الجبر، وتأثير فن الجدل في العقائد الدينية، والذهول عن سماحة الدين وسهولة التدين به، وتشويش أفكار الأمة بكثرة تخالف الآراء في فروع أحكام الدين.
- أسباب سياسية: تفرق الأمة إلى عصبيات وأحزاب سياسية.
- أسباب أخلاقية: الاستغراق في الجهل والارتياح له، والارتياح إلى الخمول، وفقد التناصح وترك البغض في الله، وفساد التعليم والوعظ والخطابة والإرشاد، وإهمال طلب الحقوق العامة جبنا وخوفا من التخاذل.
وتختم الجمعية اجتماعها إلى وضع قانون تنظيمي يخرجها من حيز الخفاء إلى حيز التجلي، فتأسس بشكل قانوني وتنظيمي وتسعى إلى تحقيق الغاية التي من أجلها كان هذا المؤتمر الأول، وخلص الاجتماع الأخير إلى أن: المسلمون في حالة فتور عام تستدعي إيقاظ الهمم والبحث عن أسباب الترقي بين الأمم، والتخلص من داء الجهل العام وذلك بتنوير الأفكار بالتعليم.
وختاما، فإن هذه نظرات عجلى عن هذا الكتاب القيم سجلناها تشويقا للقراء للرجوع إليه، وإلا فإن الكتاب يستغني بأفكاره عن التعريف به؛ إذ يعتبر من أهم الكتب التي ألفها الكواكبي وبسط فيه آراءه وتصوراته لحال الأمة، وكيفية الخروج من مأزق التخلف، والتشرذم الحضاري من خلال قيام كل فرد بما يجب عليه داخل المجتمع وتقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة.