تحمل أمانة القرآن..الاصطفاء من أجل الابتلاء.
ثقل لا أستطيع أن أصفه الآن، إنه ثقل يشعرني حقا بعظم ما أحمل، قد تكون سمعت عنه وحاولت تصوره ذات يوم، لكن صدقني لن تستطيع أن تدرك كنهه مهما حاولت، ليس باختياري اخترت أن أحمله، ربما هو القدر قبل كل شىء، أو قل ربما هو الاصطفاء، ألم يخبر الله في كتابه أن حُمّال كتابه مصطفون، إنه اختيار الحكيم من فوق سبع سموات إذا، لا أعرف هل حقا تستطيع أن تتصور أنت ذلك أيظا؟
عن نفسي لم أكن أدرك ذلك، لكن مع مرور السنين، وتعاقب اليل والنهار، أصبحت أدرك معنى الاصطفاء، وإنه لأمر عظيم لمن أدرك سره!.
كنت أختلف إلى كتّاب القرية وأنا بعد صغير، أتهجى الحروف ثم الكلمات، لم يكن يهمني وقتذاك غير التفوق على قرنائي، كنت أبذل جهداً واسعا بغية أن أحفظ أكبر قدر ممكن من السور والآيات، لم أكن أعي حينها أنني أتحمل أمانة عظيمة، لم أكن أعرف قيمة ما أسعى جاهدا لتحمله، ربما لو كنت أدركت حينها ما كنت تحملته بتلك السرعة! ألم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يتعلمون الآية ولا يمرون إلى التي بعدها إلا بعد أن يفقهوا تلك ويطبقوها في حياتهم، لكني لم أعرف كل ذلك إلا وكل القرآن بقلبي..
هاجرت الكتاب والقرية، وانتهت سن الطفولة، لأجد نفسي أدرك يوما بعد يوم معنى ما أحمل، كانت الدروس والمواعظ التي تطال أذني، من حين لآخر تبصرني بكل ذلك، لم يكن يتحدث فقيه أو مفكر في أمر يخص القرآن إلا وأجدني أعرف كل تلك الأمور، كان فقط يزيل الغشاوة عن ذهني لأبصره من جديد، عندما كنت أفقه معاني بعض الآيات كنت أشعر بها في صدري حارقة مثل الشهب، لم أكن أستطيع أن أحملها بعد ذاك، لكن لم يكن بيدي خيار الآن، فقد تم كل شىء من غير أخذ موافقة مني، هناك أمور كثيرة تجري هكذا، لا نكون مخيرين في إعطاء رأينا فيها، فمثلا ليس نحن من يقرر هل نأتي إلى هذه الحياة أم لا؟ كما أنه ليس في أيدينا اختيار اسمائنا؟ كما أشكالنا وألواننا..بلداننا.. وغيرها كثير..
الكثير يتمنى لو أنه يحمل تلك الأمانة، كل ذلك في نظري لسبب بسيط، إنه يعتقد أنه لو كان يحملها ربما كانت ستمنعه من الكثير مما يقع فيه الآن من الأخطاء، ربما كان يخال الأمر شبه غشاء من القداسة يغشاه، لكنه لم يكلف نفسه ولو لحظة عناء ليطرح على نفسه السؤال التالي: لم الكثير من ألئك المصطفون هم الذين يقعون في الآثام؟ لم القليل منهم فقط هم الذين ينجون؟ وقتها ربما كان سيبدأ يعي معنى ثقل حمل هذه الامانة العظيمة، وربما حينها كان سيعرف معنى إباء السموات والأرض أن يحملنها، ألم يأت في كتابه” إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا” ظلوما لنفسه بتحمله إياها، جهولا بحقيقة وعظم ما يحمل.
أصعب شىء أن تدرك الحقيقة وأنت في منتصف الطريق، لا يعود خيار بين يديك إلا الاستمرار، ربما قد أقول هذا ما حدث لي، لم يعد بيدي خيار غير الاستمرار، في هجيع اليل كنت أجلس وحدي أتأمل نجوم السماء، كنت أتطلع إليها مليا ذات ليلة صافية، وحدي كنت هناك، لم يكن يشاركني تأملي ذاك غير هواجس ذاك الصمت المريع من حولي، كنت أتأمل ذاك الفضاء الفاغر الذي يلف المكان، لم أكن أنتظر وحيا من السماء حينها، كان في الحقيقة الوحي كله في صدري، فقط كنت أنتظر نزول شىء ما، ربما هي نسمات الرحمان التي ينفثها في أفئدة أوليائه الصالحين، لتقيهم من زلات الشياطين، كنت أظل أحدق برهة من الزمن في الفضاء، لا أسأله غير شىء واحد، أن يبصرني بطريقه المستقيم، وأن يعينني على تحمل هذا السر العظيم، الذي أودعه هذا المخلوق الضعيف من عباده.
تزداد معارفنا يوما بعد يوم، وتختلف إدراكاتنا تبعا لذلك، نجد أنفسنا بتنا نمتلك رؤية مختلفة وجديدة لكل شىء من حولنا، الحياة، والكون، والناس…وكل شىء، لم تعد تقيدنا تلك المعارف البسيطة التي تلقيناها في صبانا، ولا تلك التي تعلمناها من أساتذتنا أو شيوخنا، نجد أنفسنا بتنا نسبح داخل بحر من المعارف والعلوم، ربما يكون مجرد كتاب نقرأه في ظرف ساعة أو ساعتين، أو مقال نمر عليه في ظرف دقيقتين، كاف لأن يغير نظرتنا لكل تلك الأمور من حولنا، لكن هناك أمر واحد لا يتغير مهما ازدادت معارفنا أو تغيرت، إنه ذاك السر الذي أُودع فينا، بل نجد أنفسنا كلما تغيرت معرفتنا وازدادت وتنوعت، إلا ويشرق فيه جانب لم نكن قد أدركناه من قبل، إنه الوحيد الذي يقبل كل شىء، وكلما مددته بمعارف جديدة إلا ومدّك بطاقة جديدة، وبصّرك بمنافذ يعجز على غيرك رؤيتها، وربما قد تكون هي سبب نجاتك من براثن هذه الحياة الآسنة.
إنها لأمانة عظيمة فعلا لكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، أحيانا تكون على شفى الوقوع في الهاوية، لتأتيك تلك الإشارات مثل الشهب لا تجد نفسك إلا وأنت تردد آيات تنهاك على ما أنت مقبل عليه، يخالك شعور غريب، لتدرك أن أمر هذه الأمانة غريب فعلا، لتبدأ تردد مع نفسك: كيف لهذه الآية بالذات أن أستحضرها في هذا الوقت؟ وقد كنت قبل ذلك أسعى جاهدا لأتذكرها لكن دون جدوى، لتدرك حقيقة عظيمة، هذه الأمانة أشبه ببرنامج حماية، ما إن يستشعر الخطر يحدق بك حتى يرسل لاجل تذكيرك إشارة تنذرك خطر عما أنت مقبل عليه، قد تجهل ذلك أو ربما أنت الآن لا تفقه ما أقول لكن صدقني إنه لأمر عجب إن جربته!.
كم أصاب بالإحباط، عندما أجد الكثيرين ممن ينظرون إلى هذه الأمانة وكأنها صنم، لا ينقصهم غير السجود لها، أو مثل رزنامة من الأوامير والنواهي، لا ينظرون إليها الا وكأنها مجموعة من القوانين سطرت، فعلا هؤلاء يكونون أجهل الخلق بها، إن لم تجعل تلك الامانة وكأنها روح تسري بداخلك، فتذكر أنك لم تفقه بعد كنهها، إنك حامل شىء ولا تبصر حقيقته، أخشى أن تكون مثل ألئك الذين قال الله فيهم” كمثل الحمار يمل أسفاراً”.