جوكر: فيلم مجسد لمأساة الإنسانية!

1٬247
لم أكن مهووسا بمشاهدة الأفلام كثيرا، ولا أحب مشاهدتها، إلا أن الانتقادات التي قيلت حول فيلم جوكر استهوتني من أجل مشاهدته، فتجلت لنا من خلاله رؤية تأويلية نقول فيها رأينا، ساعين مشاركة ما استوحيناه مع القارئ الكريم.
أبدأ هذه الورقة المعنونة بـ”الجوكر: فيلم مجسد لمأساة الإنسانية”، بقول الكاتب نجيب محفوظ في حوار له على قناة ماسيبرو زمان المصرية: “إن العمل السينمائي يعد عملا نقديا للواقع” بحيث تبدت لنا من خلال مشاهد الفيلم، مجموعة من الدلالات والمداليل المجسدة لمأساة الإنسانية في عصرنا الحالي، وسيرا مع ضجة جودة الفيلم، وإجادة المخرج في تبليغ رسائل وجودية متعددة، نسعى أيضا أن نقوم بمحاولة تأويلية نقترب فيها من تجربة ٱرثر فليك المعيشية، مركزا على عُقدته النفسية، وتزامنها مع أحداث كانت السبب الرئيس في تحوله إلى “جوكر”.
إن الجوكر إنسان احتاج لمواساة وعطف وحنان، فلم يجد ذلك، وأراد أن يبرز ذاته كإنسان يسعى لإدخال السرور على العالم، الذي بلغ من القساوة مبلغا شديدا، إنه عالم بارد تجمدت فيه الإنسانية، وعالم قاس، يبتغي منك أن تكون لنفسك كل شيء، وأن تبادر إلى تحقيق مطامحك، دون النظر إلى أوجه الناس التي أصيبت بلوثة المأساوية، والألم، والشدة، والحقد والبغض.
سافر بنا الفيلم إلى حلقة من حلقات البؤس الذي أصاب الإنسانية، التي لم تعد متجذرة في الإنسان، على اعتبارها الأساس الذي يحكم العلاقات والترابطات بين البشرية قاطبة، قساوة الناس وبرودة إنسانيتهم، تخلق نوعا من الجفاف في التعاملات، والظمإ في التحاورات، والحسرة في الأفعال والسلوكات.
إن فيلم الجوكر يجسد بعضا من الإهمال الذي يمارسه الناس في حق الذات التي تعاني من مرض أو عقدة نفسية، ويُظهِر أيضا دور السلطة المسؤولة في تكريس الإقصاء داخل المجتمع، تنقيصا لها من قيمة الشخص بِغَض النظر عن فكره ووضعه وانتمائه، لقد تبددت أواصر الإنسانية، وتفككت ضوابطها وأسسها، فصارت الذات تعيش مرحلة انتقالية يُهمَلُ فيها الشخص المصاب بعلة ما، كان مطلب جوكر مطلبا شريفا ومشروعا، هو إسعاد الناس وإدخال السرور إلى قلوبهم، مع أنه يعيش تذمرا داخليا حارقا، فمسعاه استمر معه حتى انقلب إلى شخصية انتقامية، وسأحدد لم انتقل من ذات كان مطلبها إسعاد الناس إلى الانتقام منهم، وسأعرض أحداثا وصدمات من الفيلم لكي أبين مظهرها المأساوي الذي تسير فيه الإنسانية.
أول صدمة تعرض لها “ٱرثر” هي طرده من العمل بفعل حمله للمسدس، حينما كان يمازح الأطفال في المستشفى تسلية لهم، وإدخالا للسرور إلى قلوبهم، فشكل الحدث بداية أزمة نفسية غيرت نظرته جزئيا حول معاملات وسلوكات البشر، إنه لم يجد شخصا يقف معه في هاته اللحظة، وكان محط السخرية والاستهزاء، كما أنه يُستفز كثيرا بنظرات الناس في الشارع والحافلات.
والصدمة الثانية هو حينما تلقى خبر إغلاق مكاتب الاستشارة الاجتماعية من قبل ممرضته، وأنه لن تلتقي به مرة أخرى، فأصيب بحيرة من هول ما سمع، كيف للدولة أن تغلق الباب في أوجه الذين يعانون من عُقد نفسية، همها الوحيد الرفع من مكانة ذوي الطبقة العليا، هم عِليةُ القوم، شعر بتحسر داخلي، عبر عنه بعبارة استفهامية رقيقة الإحساس، “لمن أتحدث؟”، الناس لا يهتمون بأمثالنا، يجعلوننا منقصة لا أساس منها، الملجأ الذي نلج إليه لنعبر عن الشدائد التي نعايشها، هي مكاتب الاستشارة، قد تم إغلاقها.
يبحث جوكر عن ذاته في امتهانه للكوميديا اللعينة، ليسعد الناس ويفرج عنهم كربهم، لكن رداءة الواقع حالت دون تحقيق هذا المطلب.
والصدمة الثالثة التي شكلت نقطة تحول ٱرثر، هي صدمة سماعه خبرا من أمه، بأن أباه الحقيقي هو “بيني فيلك”، ولا يهمنا اسم الأب، بقدر ما تهمنا طبيعة الصدمة التي زادت من قلقه وأزمته النفسية الحادة، في ظل توارد الصدمات وتواليها جاء خبر الأبوة، ليكون بابا انتقاليا من البهلوان الذي يسعى للبحث عن حل لإسعاد العالم، إلى شخص وجد نفسه وكيانه في الانتقام، وما زاد من تأزم ٱرثر، هو علمه من خلال الحصول على مجموعة من الوثائق أنه ابن بالتبني، فاكتشف كذبة أمه، فانتقم منها خنقا، إحساسا بالراحة والطمأنينة، ودون التحسر على قتلها.
شكلت الكذبة محور تغير جوكر إلى شخصية انتقامية؛ لأنه في التصور الكوني العام أول حضن يمكن أن ترتاح فيه دون الشعور بضيم وضيق وتحسر هو حضن الأمومة، وآخر ما يمكن أن يتصوره الإنسان هو تعرضه لشيء غير محمود من أمه، فكذبة الأم لم تترك المجال ليعقد جوكر أملا في إعادة الإنسانية إلى أصلها، الذي تحكمه المحبة والسلام.
البؤس والألم والتأزم هو أن تتلقى صدمة من أمك، وفي نظري إن ٱرثر لمّا تعرض لهذا، قَرَّت في نفسه عبارة تأسفية هي: حتى الأم التي نظنها دائمة الأحضان الدافئة فقدنا ثقتنا بها، من يسعفنا غيرها، ومن يضمنا دونها، ومن يعطف علينا ويسمع لهماستنا بخلافها، فأصبح بهذا ٱرثر منتقما دون الشعور بالندم، آخذا بذلك ثأر الإنسانية الزائلة، نحن على أبواب من المأساة والمعاناة، يفتقد فيها العالم لحضن دافئ يسمى بالإنسانية، غير المقصية للذات، التي فضلها الله تعالى على كثير من المخلوقات.
تكشفت لي من خلال مشاهدة الفيلم أن ذاتك لا تحتاج إلى شخص ولا تقوم على أمر، إنما تقوم على أن تكون لنفسك كل شيء.
إن فيلم الجوكر يوضح أن المجتمع هو الذي يخلق هذه المأساة بنفسه، وهو من يسهم في انتشار الجرائم والانتقامات، فالعالم يحتاج إلى أحضان باردة تضم إليها كل نفس تحس أنها ذاتُ مَنقَصةٍ بها ألم ومرض وعقدة، نفتقد إلى حضن نصطلي منه كلما شعرنا ببرودة، نحن على جمر يزداد لهيبا كل يوم، تتلاشى ذاتنا كلما وجدنا الحياة مظلمة، تنتفي الإنسانية حيثما حل البؤس والحقد والحسد والإهمال، أصيب الناس ببلادة الفكر، ومساءة الأخلاق، وجمود العواطف والأحاسيس.
إن رسالة الفيلم واضحة، رسالة مكتوبة بماء الحسرة والحزن والشدة، نَرُفها ونسبكها وننظمها في قولنا: إن العالم يحتاج إلى الحب والمواساة، والاهتمام والتعاطف، والإسراف في اللطافة والظرافة، حتى نستطيع تجاوز الانتقام والحروب الظلامية والمشاجرات العنصرية، ينبغي علينا تجاوز الحقد والإقصاء والتنقيص من قيمة الإنسان، وما جادت به الورقة محاولة حاولت الاقتراب من بعض المشاهد فقط، دون النظر إلى مشاهد أخرى.