زهرة العمر: ثنائية الألوان والإنسان 

210

أستعير من توفيق الحكيم عنوان كتابه “زهرة العمر“ الذي كان عبارة عن رسائل تبادلها في ريعان شبابه مع صديقه الفرنسي أندريه، قفز إلى ذهني هذا العنوان وأنا أشاهد مشروع  سلمى جوراني “تبكي على أمها” وهي سلسلة صور اشتغلت فيها على بورتريهات لجدتها (فاطمة)، صور مليئة بالروح المرحة لهذه الجدة تجبرك على انتزاع ابتسامة خفيفة، وبصفة عامة فكل أعمال هذه الفنانة تغلب عليها الغرابة والروح المرحة، تسير في اتجاه فلسفة العبث الجميل وتلتقط صورا متمردة باستعمال موديلات وإكسسوارات بسيطة وعجيبة ومثيرة. كل ذلك بإضاءة الشمس الطبيعية وليس في استوديو محترف.

البورتريه:

“تبكي على أمها” عبارة يرددها الشباب المغاربة تعبيرا عن سخطهم وسخريتهم من مشاكل الحياة وضمن هذا الاتجاه يأتي مشروع الفنانة لتحول جدتها إلى رمز للإقبال على الحياة رغم سنها المتقدم، ففي الصورة سيدة في الثمانينات من عمرها خط الزمن على وجهها ما شاء له من تفاصيل وتجاعيد، مبتسمة، ترتدي مرة لباسا حديثا ومرة تقليديا مع اكسسوارات مثل النظارات الشمسية وشعر مستعار وأقراط وورود وبالونات.., وماكياج شبابي ملفت في خلطة لا تخلو من أناقة وجمال، يتجه وجه السيدة إلى منبع الضوء الذي ليس سوى نافذة تظهر هذه الإضاءة تفاصيل الوجه وتشبع ألوان اللباس، خلفها ستار أبيض أو ذو لون محايد حتى لا يشوش على ملابسها، مشهد بسيط حاولت المصورة أن لا يكون معقدا، فما يحضر داخل إطار الصورة مدروس وكاف ومقنع وقد أدى رسالته كما يجب، ومما زاده مصداقية وواقعية هو الجو العائلي الذي ساد جلسات التصوير، فمن أصعب تحديات البورتريه هو كسر المسافة بين الموديل والمصور وهنا هي منعدمة لأننا أمام جدة وحفيدتها.

نعرف جميعا أن البورتريه هو جنس قائم بذاته في عالم الفوتوغرافيا، وهو قادم إليها من فن الرسم والتشكيل. وقد جرت العادة عند المصورين على اختيار المشاهير أو الموديلات من الشابات الحسناوات ذوات القوام الرشيق، لكن المصورة سلمى في موضوعها هذا اعتمدت سيدة عادية في الثمانين للتعبير عن ديمقراطية الوقوف أمام عدسة الكاميرا، بل وزينت وجود جدتها بإعطائها روح الشباب وألوان الشباب وتفاصيل الشباب. فالعمر يقاس بالروح أحيانا وليس بالأرقام. فكم من شاب لم يتجاوز الثلاثين يحمل قلب رجل عجوز شاخ قلبه وأمله وتفاؤله وإقباله على الحياة.

إن مسألة الوجود واستغلال سنين حياتنا كانت مسألة فلسفية ولا زالت. لذلك استحضرت عنوان توفيق الحكيم الأديب الفيلسوف “زهرة العمر“ في إِشارة إلى فترة شباب الكاتب. فربيع عمرنا قد يكون في العشرينات أو في الثلاثينات وحتى في الستينات أو السبعينات فمادام في العمر بقية فكل يوم يستيقظ فيه الإنسان هو يوم جديد يجب أن نستغله كما لو أنه اليوم الأول لنا في هذه الحياة.

ثنائية الألوان والإنسان: 

ونحن نتحدث عن نقاط قوة المشروع فلا بد من الوقوف عند اعتماد المصورة على سيكولوجية الألوان، أي استعمال مزيج من الألوان الحارة والجذابة مثل الأحمر والأصفر والبرتقالي وهي ألوان قوية حارة، ونعرف رمزيتها القوية في الفوتوغرافيا، فلها تأثير إيجابي على ذهنية المتلقي، وباعثة على الشغف، والأمل، والسعادة. وألوان أخرى باردة مثل الأزرق، والأخضر، والبنفسجي، وهي ألوان تمنح الراحة والهدوء، والاطمئنان. فللألوان رمزية وتفسيرات كثيرة وذلك حسب ثقافة كل بلد، وقد تختلف أيضا من شخص إلى آخر ومن فئة عمرية إلى أخرى. لذلك نجد الماركات العالمية تصمم لكل فئة عمرية لباسها وألوانها الخاصة؛ فالأحمر مثلا لون الورد والدم، لون العشق والشغف والتضحية لذلك نجده مثلا في الأعلام الوطنية لدول كثيرة، والأصفر عند الكثيرين هو لون الشمس، الطاقة والاحتراق. أما الألوان الباردة مثل الأزرق لون صفاء السماء وهدوء البحر. والأخضر هو لون امتداد العين في الحقول والغابات، لون الخصوبة والعطاء. هي إذن عنصر من العناصر التي نستخدمها في التواصل، قال أحد المصورين قديما وهو تيد غرانت ted grant: “أنك حين تصور الناس بالأبيض والأسود فإنك تصور روحهم، وعندما تصورهم بالألوان فإنك تصور ملابسهم”. إلى حد ما قد تبدو هذه المقولة صحيحة ولكن في حالتنا هذه تشكل ملامح الجدة والألوان وحدة موضوعية، فكل واحدة منهما تكمل الأخرى، أو هكذا أعتقد أنا على الأقل، ويبدو ذلك أوضح إذا حولنا هذه الصور إلى الأبيض والأسود فسوف تفقد قوتها الرمزية والتأثيرية على العين (الدهشة impact).

يرمز استعمال الألوان عند سلمى إلى مرحلة الشباب بكل حمولتها النفسية، من تهور وسذاجة وحب للحياة والإقبال عليها دون مراعاة للعواقب، وترمز السيدة جدتها للإنسان المتقدم في العمر حيث ألبستها ثوب الشباب من جديد، ولعل الرمزية التي أستخلصها هنا أننا مطالبين بأن نلبس أرواحنا بألوان الشباب والتمرد كلما أحسسنا بأنها تشيخ وتتقدم في العمر، ليس أصعب على النفس الشابة من جسد منهك وليس أصعب على الجسد الشاب من نفس منهكة متعبة ومستسلمة. هي ثنائية الألوان والإنسان.

لماذا زهرة العمر؟ رحلت هذه السيدة إلى دار البقاء ولكنها بقيت متشبثة بزهرة عمرها إلى آخر أيامها، ولأن من لهم روح مثل روح هذه السيدة فهم لا يشيخون وتبقى روحهم مزهرة. ومثل هذه الأعمال تكسر فينا تلك النظرة النمطية عن الإنسان في شيخوخته مكسور الخاطر والمقبل على الموت المودع للحياة، ولباسه الرث والبالي ذي الألوان الباهتة، وتضعنا أمام شخصية مقبلة على الحياة، أنيقة، متزينة. لم تركن بعد إلى هامش الحياة تأسف على ما فات وتعيش على فتات الذكريات.

خلاصة القول؛ إن الفوتوغرفيا تبقى، بل يجب أن تبقى دائما حاملة لرسالة الأمل والمقاومة لشتى أنواع اليأس، والأساسي أيضا أن تبقى رسولة الجمال ونبية الاحتفاء بالحياة، فالصورة وإن كانت تجمد اللحظة إلا أنها عنوان على البقاء وتحارب الزمن وأخيرا عود على بدء، فالفوتوغرافيا هي فلسفة المرح وفن العبث الجميل.

الصور : سلمى جوراني

1xbet casino siteleri bahis siteleri