مشروع استديوهات studios لمَهدِي مَرْيُوش
أصلُ الحكايةِ: فوتغرافيا
الفوتغرافيا جنسٌ قليل الكلامِ بطبعه؛ فهو يشير ولا يفصح، يثير الأسئلة ولا يجيب، يثير حوله الكلام ويستفز المشاهد ليبحث عن الأجوبة. الشك باب العلوم والفلسفة والفنون، وقد يكون السؤال باب الفوتغرافيا. وبعيدا عن كل هذا، فالصورة أحيانا مهمتها أن تحكي للمشاهد وتُشعل غريزة الإنصات داخله، وجبةٌ من الإنصاتِ أو تمرين بسيط في الإنصات هو ما يدعونا إليه مهدي مريوش في عمله الموسوم بـ “استوديوهات”، وهو عمل إبداعي من داخل جنس الفوتغرافيا حيث يحكي لنا بعمق بالغ قصصاً متنوعةً عن كائن تسمه “مصور الحي”.
مصور الحي مهنة يبدو أنها في طريقها نحو الانقراض، تصارع تحديات زمن الثورة الرقمية، وهنا يأتي مهدي ليسلط الضوء على ما بقي من جيش المصورين القدماء، أصحاب استوديوهات لطالما أثثت المشهد العام المغربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، الجيل الذي يكرمه في هذه الحكايات المطرزة بالضوء والخبز والعرق، ينتمي إلى جيل أيام الاحتلال وما بعد الاستقلال، جلهم أخذوا المهنة عن الفرنسيين والإسبانيين وهنا نحن أمام مدرستين فوتغرافيتين، الأولى بالرباط والدار البيضاء والثانية بتطوان. ومنهم أيضا من تمرن على يد المصورين المغاربة الأوائل، وفيهم من اعتمد على عصاميته، فمعروف أن هذه المهنة انتشرت في المدن المغربية الكبرى مع دخول الاحتلال، باستثناء طنجة التي كانت قد عرفت بعض الاستوديوهات في نهاية القرن التاسع عشر. في البداية تولى الأجانب هذه المهنة إلى أن هبت رياح الاستقلال ليأخذ المغاربة مشعل التوثيق بالكاميرا.
الفوتغرافيا عموماً فن كان ينظر إليه بعين الشك والريبة في المجتمعات الإسلامية، لما قرره فقهاء الدين من تحريم لهذا الفن، لكن تماشيا مع متطلبات الحياة أصبح له ولهذه المهنة حضورا ضروريا خصوصا من الجانب الإداري، كبطائق الهوية، وتوثيق المناسبات الرسمية ثم العائلية، هكذا صار المغاربة الذين عرفوا الكاميرات في أيادي الأجانب يتعودون تدريجياً على هذه الآلة بين أيدي أبناء جلدتهم وبدأوا يشكلون علاقة جديدة تشوبها بعض الثقة.
حرفة مصور الحي -أحيانا كان ينادى بـالمْعَلمْ- أصبحت واحدة من المرافق الضرورية بالأحياء إضافة إلى مرفق الحمام، والحانوت، والمسجد والكاتب العمومي؛ حيث كانت تحج إلى محله أعداد كبيرة من التلاميذ أيام الدخول المدرسي وفي الأعياد والمناسبات كل بلباسه الجديد، فمن منا لا تقفز إلى ذهنه -وهو يطالع الصور- ذكريات الطفولة، يوم كنا نُساق مجبرين وكأننا مقبلين على حقنة طبيب بكل خوف وتوجس، ليستقبلنا رجل وقور، في الغالب بنظارات طبية تكشف عن عينين مرهقتين ليجلسنا على كرسي مرتفع ويصوب نحونا آلته العجيبة ومظلتا الفلاش ثم يقفز الضوء من حيث لا ندري، ونعود بعد أيام لنأخذ صورة وجوهنا مطبوعة على ورق.
عندما نذكر مصور الحي نتذكر ألبوم العائلة الكبير -الكنز الخفيّ- الأرشيف الرسمي غير المكتوب، عليه طُبعت لحظات سعادتنا وأفراحنا ومناسباتنا العائلية، وعليه أيضا شغبنا الطفولي، كل تاريخنا الحميمي هو من إنجاز هذا الرجل، كان أحيانا يعتبر أحد أفراد العائلة فهو رجل الثقة دائما، أمام كاميرته الديمقراطية يأخذ كل فرد نصيبه من الضوء، وتفتح أمام آلته الأبواب الموصدة لبيوت الأغنياء والفقراء على سواء، ويحضر الولائم ويجبر المسؤولين الكبار على تتبع أوامره بسلطة الكاميرا.
تفاصيل الحكاية
عُرف عن المصور المغربي الشاب مهدي اشتغاله بطريق شفافة ومباشرة على قضايا الإنسان المغربي في معيشه اليومي؛ فهو يحرص على أن يكون الإنسان محور العمل دون أن ينزلق نحو هوامش وتفريعات القضايا، بل يركز بحساسية بالغة على مادته الفوتغرافية مسلطا آلته على الجوهر ويدعونا نحن لتتبع وتقصي باقي التفاصيل والحيثيات المتفرعة. وهنا مثلا يأخذنا من صورة مصور في محله، إلى سؤال مصير المئات من المصورين المهنيين ممن ارتبطت لقمة عيشهم بالضوء والكاميرا خاصة مع مجريات العصر الحديث.
تفاصيل الحكاية يرويها مهدي في عمله، فالصور تلتقي كلها في المشهد العام المأخوذ، يتوسطه شخص بلباسه المتواضع العادي الموحي بطبقته الاجتماعية المتوسطة، الكاميرات والفلاشات، والاكسسوارات التي تزين ديكور الاستوديو، والخلفيات الرائعة المستعملة، وحتى الأرضية المثيرة ببساطتها وألوانها غير المتناسقة مع الخلفية، ثم الكرسي الرئيسي، ومزهرية الورود، والدراجة الهوائية…تفاصيل بسيطة لكنها كانت مصدر سعادة أجيال كثيرة، فكل تفصيل هو دال وموحٍ.
اختار مهدي مريوش لكل الصور أن تكون أفقية ذات مساحة أكبر للعين، تأخذ نفس التأطير والتوزيع، بتوجيه مقصود منه ليعطي الانطباع بالتشابه في الوضعية الفنية والمادية والتاريخية والأهم الإنسانية. فقد وضع المصورَ في مركز الصورة ومركز الحكاية يتوسط عدته البسيطة والمتواضعة لكنها تفي بالغرض، وجعله يجلس مكان الزبون في لعبة تبادل أدوار جميلة.
هذه العينة من الاستوديوهات التي اجتهد مهدي في التنقيب عنها في مختلف المدن المغربية الرئيسية منها والهامشية، فقد انتقل من وجدة إلى طنجة وإلى ميسور وأوطاط الحاج، بعضها كانت مجرد استوديو للتصوير فقط، وأخرى كانت استوديو ومختبرا يصور ويطبع الأعمال، نتحدث عن كابسولات الكليشي والنيجاتيف والمحلولات والغرفة المظلمة، عن الفوتغرافيا التقليدية التي عرفناها.
لعلك لاحظت -أيها القارئ الكريم- هيمنة العنصر الذكوري وهو شيء طبيعي وبديهي عندما نربطها بالمجتمع المغربي وبالنظر إلى السياق التاريخي والاجتماعي، لكن هذا لا يمنع من أن المرأة قد اشتغلت في هذا الميدان لكن بطريقة غير مباشرة حيث كانت ترافق زوجها إلى الحفلات الخاصة وكانت غالبا تقوم بدور المساعد في الحفلات الخاصة بالنساء، وهنا يحضرني اسم السيدة التطوانية التي خاضت هذه المجال كاستثناء.
ضمن كشكول الجيل القديم، تطل بعض الوجوه الشابة “التي اختارت هذا التحدي مع قلة الإمكانيات وغموض الأفق” كما يقول مهدي. فخلال جلساته الطويلة وجد لديهم استعدادا كبيرا للتحدث وبث شكواه، ومع أنهم أدخلوا بعض المواد التجارية الأخرى وإكسسوارات الهواتف مثلا، إلا أنهم متشبثون بالصورة كمصدر رزق أساسي.
أيضا تثيرنا أسماء الاستوديوهات، كـ “الشرف والأمل” وكلها في الحقيقة قيم رفيعة تعكس حجم الثقافة والمسؤولية التي يتحلى بها صاحب المحل، فالصورة أولا وأخيرا هي مسؤولية وفي بعض الأحيان هي “سر عائلي”. وقد تتعدى مجرد أسماء محلات إلى القيم الكبرى التي يحملها فن الفوتغرافيا النبيل، فقد كانت رسالته دائما الأمل والشرف والحلم.
أراد مهدي في قالب بسيط تقنيا وفنيا ولكن باحترافية فيها الكثير من الإنسانية أن يسلط عدسة كاميرته ومعها عيوننا وقلوبنا إلى مصير هذه الفئة المميزة ممن وثقوا حياتنا الفردية والجماعية؛ فإذا كان دور العُدول توثيقُ معاملاتنا المكتوبة مهما وكبيرا جدا، فإن دور المصور الفوتغرافي في التوثيق البصري لحياة المغاربة لا يقل أهمية ورمزية داخل المجتمع، خاصة في النصف الأخير من القرن العشرين.
الحكاية بين المهنة والفن
بقي ونحن ننهي قراءة عمل مهدي أن نلامس أحد الأسئلة المزمنة في الفوتغرافيا، وهو المسافة بين الحرفة والفن، وعن العلاقة، هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟ علامة استفهام كبيرة يطرحها الكثيرون هنا خاصة في هذا الميدان؛ حيث تلتقي الصورة مع لقمة العيش، في الحقيقة يأخذ السؤال أكثر من قيمته؛ فكل ما ينتجه الإنسان هو فن، فالحرفي هو فنان يلبي حاجيات الزبون، والفنان هو حرفي يتفنن في حرفته ليرضي نفسه ثم المتلقي، الإجابة صعبة ونحن هنا لا ندعي الإجابة عنها، لكننا قد نلامس بعض الأمثلة، فمن المصورين المهنيين من أخذه الجانب الجمالي في الصورة ثم قرر أخيرا أن تكون مصدر رزقه، ومنهم من أخذته أمواج الحياة إلى أن يتخذ الكاميرا مهنة دون خلفية فنية، لا مجال هنا للمفاضلة أو المقارنة فكل منهما قدم خدمة جليلة للمجتمع وللأرشيف العائلي المغربي، وحتى الأرشيف الرسمي، فلولاهما لما عرفنا وجوه أجدادنا ولا كنا ضحكنا من أشكالنا ونحن صغار.
أخيرا، في عمل مهدي الكثير من الحب والنوستالجيا الرائعة التي تحركت فيه ذات صورة قديمة وكانت سببا في هذا البحث الجميل، في الفوتغرافيا إما أن تحكي عن الضوء أو عن الإنسان ومهدي مريوش جمع بينهما في حكاية واحدة.
على سبيل الختم وما دامت الفوتغرافيا رسولة الأسئلة إلى عالمنا هذا، فالسؤال الذي نتركه معلقا هنا هو: ما مصير الفوتغرافيا؟ وما مصير المهن المرتبطة بها؟