لا يختلف اثنان على أن الزواج هو أحد أسمى العلاقات الإنسانية التي توَّجت على مر الأزمان أرقى المشاعر الصادقة والنبيلة، كيف لا وهو الميثاق الغليظ والآصرة الوُثقى التي مهدت لاستمرارية الأجيال وبذلك استمرارية الأديان والعلوم، والأدب والموسيقى وكل الأشياء الجميلة أو السيئة على حد سواء. لقد جعلت منا هذه العلاقة باختصار، ما نحن عليه الآن باختلاف أشكالنا وجيناتنا وأفكارنا وحتى قراراتنا المصيرية.
غير أن هذه الرابطة لم تلبث أن تحولت إلى بداية جحيم من الظلم والعذاب النفسي وحتى الجسدي لأطفال لم ينهلوا بعد من حب الحياة وجمالها، لتنهال عليهم بعقاب أشبه بالسجن مدى الحياة…طفلات كُتب لهن أن يلبسن أثواب الزفاف، وأن يثقلن أوجههن البريئة بالألوان والمساحيق التي لم تستطع أن تخفي تلك الروح المنكمشة على نفسها، الخائفة من المصير المجهول وبطش الكبار. استباق للأحداث وخوف يشل الأهل من العار، ذلك الشبح المخيف لمن أنجب البنات من ضعاف النفوس والعقول، والضحية فتاة تحرم من أبسط حقوقها في اللعب، والتعلم، والحلم وحق الاختيار بين القبول أو الرفض، بل إن هذا الأخير يعتبر مهانة وجريمة لا حقا مشروعا…
تختطف الطفلة أو المراهقة على حين غرة من أجمل أيام حياتها ولا تُمنح فرصة لمعرفة ما هي مُقدمة عليه، حتى إنه يتم مناقشة كل الأمور والحيثيات بما في ذلك الزوج والمهر وموعد الزفاف، أما إعلامها فآخر ما يفكر فيه الأهل، أو قد لا يفعلون ذلك في أسوء الحالات. تخبرها الأم أنها العادة التي سار على منهاجها الأجداد، وأي عصيان للعادة هو جريمة لا تغتفر ووصم بالعار للعائلة، تخبرها أنها مسؤولية كبيرة وامتحان لتربية والديها، يزيد خوف الفتاة من الامتحان الذي ينتظرها والتي تؤمن في قرارة نفسها أنها فاشلة فيه لا محالة، فلا أحد يُقْدم على امتحان بدون دراسة ودراية .
إن زواج القاصرات آفة لا تزال تبعاتها واضحة على المجتمع لحد الساعة، ولا عجب أنه وفي القرن الواحد والعشرين لا يزال هنالك من يؤمن بأن الزواج المبكر خير وأرشد من تعليم المرأة، وأن الرجل الذي يتزوج طفلة يستطيع ببساطة على حد القول الشعبي السائد أن يؤدبها على يديه وأن يقلل من الخطر الذي يقترن في ذهنه بالعلم والمعرفة والنضج، فكلما نضجت الطفلة وتعلمت صارت أوعى بأمور الحياة وأكثر دراية بحقوقها وواجباتها وهذا ما لا يريده هو. غير أن اللعب والعلم وباقي الحقوق التي أصبحت اليوم ضرورة ومُسلَّمة لا فضلا وميزة، لا تزيد المرأة سوى حكمة ورجاحة ووعيا باختياراتها بالطريقة التي تريد أن تخدم بها البشرية ككائن مسخر للخير وإعمار الأرض، والطريقة التي تريد أن تنشئ بها أسرتها وتربي أولادها لتجعلهم أفضل منها والواقع يشهد على ذلك.
تؤكد كل الدراسات اليوم أن زواج القاصرات أحد أشد أنواع العنف خطورة، لما له من أضرار على صحة الفتاة النفسية والعقلية وانتهاك لأبسط حقوقها، هذا ما لم يقترن بالضرب والتجريح، والنتيجة طلاق في أحسن الحالات وجروح نفسية لا تندمل. تغدو الفتاة البريئة الخالية البال إلا من لعبها وأصدقائها دروسها امرأة تحمل طفلا أو أطفالا وأمورا لا يجدر بشخص في مثل سنها أن يتحملها، وفي أسوء الحالات قد ينتهي بها الأمر إلى الانتحار وإنهاء حياتها.
“طفلة تربي طفلا”، هذا ما قالته “محاسن” المراهقة ذات الست عشرة عاما في إحدى برامج مالك مكتبي، وهي تصف معاناتها مع زواج مبكر فُرض عليها قسرا من قِبل والديها. “محاسن” التي تزوجت في عمر يناهز الرابعة عشرة صرحت أن معاناتها ابتدأت يوم زفافها حيث عنفت من قبل زوجها واستمرت حتى حملها في أشهرها الأخيرة حيث لم تعد تستحمل وطلبت الطلاق.
المعاناة نفسها طالت أختها التوأم زهراء، حيث تزوجت وطلقت أيضا في نفس سن أختها ولقيت ما لقيت من التنكيل والضرب من زوجها الذي يعاملها على حد قولها بالجارية. الفتاتان ليستا سوى نموذج لفتيات كثيرات لا يعلم بأمرهن إلا الله، فتيات يعنفن جسديا ويحملن ندوبا نفسية لا تندمل في عز طفولتهن ومراهقتهن، فتيات كان من الأحرى لهن أن يدرسن ويتعلمن ويلعبن، أن يمتلكن سلاح العلم والمعرفة في مواجهة العنف والظلم، أن يحلمن بمستقبل زاهر، وأن يخترن زوجا سويّا يعرف قدرهن ويحترمهن.
إن العار الحقيقي هو أن يربي الأهل بناتهن فلذات أكبادهن، ليتم رميهن في النهاية نحو مستقبل غامض ومجهول في سن صغير لا يفرق فيه المرء بين خطأ وصواب، هو أن تحرم الفتاة من حقوقها البسيطة في عيش حياة سويَّة وكريمة، أن تنجب جيلا معاقا وأن تُلام على ذلك!