كيف نقتل أبناءنا!؟

في وقت تطورت فيه وسائل التعليم وطرقه معززة بالتكنولوجيا، شاهدت مقطع فيديو مؤخرا لشخص محاط بتلاميذه في حجرة دراسية، ويلقنهم دروسا خاصة في اللغة والتاريخ. يبدو الأمر للوهلة الأولى عاديا، لكن ما قد لا يُستساغ في هذا المشهد بالذات، اعتماد طريقة الحفظ السريع لمفاهيم وأحداث دون تفكير أو نقد، أو حتى مجرد تغيير صياغة النص المحفوظ. أصبح الإقبال على هذا النوع من الدراسة من طرف التلاميذ في السنوات الأخيرة كثيرا، لأن طريقة التقييم القائمة على النقط اليوم أنتجت لنا فكرة مفادها أهمية الشهادة المدرسية مقابل اكتساب ملكات التفكير والإبداع، إنها الوسيلة الأنجع للنجاح في ظل نظام تعليمي معتل.

كثيرون هم الذين أرغموا على تخصصات دراسية، إما لجهل منهم بما يريدون أو لهيبة مهن معروفة في مجتمع يضطر فيه الفرد إلى أن يتبع نفس مسار أبيه أو ابن الجار أو حتى لقلة ذات اليد. ومثال ذلك، أم تقرر مصير ابنتها التعليمي حتى تسمع عبارات الإطراء والمديح بكون ابنتها طبيبة أو مهندسة. وقد يصل الأمر إلى أن تنقطع أواصر عائلية من أجل أن تدرس الفتاة ما تريد، خصوصا إن اجتمعت عوامل اجتماعية أخرى. لذا، أن نفتخر بأبنائنا لا يعني بتاتا أن نقرر عنهم في مصائرهم، أن نفتخر بأبنائنا يعني أن نساعدهم على فتح أعينهم على كل العلوم، إنسانية كانت أم طبيعية أو رياضية، وتحديد ما يريدون بمحض إرادتهم. ينتج لنا هذا الإرغام الأسري تنميطا اجتماعيا لرغبات تلاميذ لم يتجاوزوا الثماني عشرة سنة من عمرهم وقد “حددوا” ما يريدون أن يصبحوا عليه بعد 10 سنوات. أليس بالأمر ظلم وسخف؟

بهذا الميكانيزم، نعمل على إنتاج نفس الأفكار والأشخاص الذين سيكررون نفس الأمر مع أبنائهم وأبناء غيرهم. وقد لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل قد يمس أيضا علاقة المدرسة بالمكانة الاجتماعية للفرد، وهذا ما قرره عالم الاجتماع الراحل بيير بورديو، حينما ربط أصول التلاميذ المنحدرين من طبقة بورجوازية بدراستهم للآداب القديمة ولغاتها، حيث يدخل الوسط الاجتماعي طرفا يمكنهم من امتلاك العادات الثقافية والمهارات الفكرية والهيبة الاجتماعية التي تساعد على تفوقهم، فكل هذا يشكل تصورات وإدراكات وأيضا رؤية خاصة للعالم.

ونفس الأمر يحدث عند أصحاب الطبقة المتوسطة والفقيرة، فقلما نجد أشخاصا خرجوا عن المسار المحدد والمهن المعدة لهم، وشق أحدهم طريقه نحو نقطة نهاية مسار طبقة اجتماعية أخرى. صحيح أنه لا يعدو كونه مجرد استثناء، إلا أن هذا الفرد -في فلسفة بورديو- يقوم في نفس الوقت بإعادة إنتاج الشروط الموضوعية التي ستحافظ على الوضع الاجتماعي وحتى تحسينه، فقد يحدث أن يقوم هذا الفرد بتغيير هذه الشروط وإنتاج أخرى تؤهله إلى تغيير المسار المرسوم له، رغم أن عملية التأثير في وسطه مستمرة دائما.

“كل إنسان عبقري .. ولكننا إذا حكمنا على عبقرية سمكة عن طريق قدرتها على تسلق شجرة، فستظل السمكة طيلة حياتها تعتقد أنها غبية”.

في مجتمعاتنا العربية تحظى مهنتا الطب والهندسة بمكانة اجتماعية مهمة عند الناس، خصوصا لما تحمله مثلا مهنة الطبيب من نبالة وبعد إنساني، وقد يختلف الأمر عند مجتمعات أخرى خضعت لعمليات تنميط وإعادة إنتاج نفس الأفكار والمعتقدات. إلا أن الأمر يتجاوز هنا أي رغبة شخصية، ويتعداه إلى إعتبار هذه المهن في أعلى مرتبة في السلم الاجتماعي، وأن من لم يستطع الولوج لكليات الطب ومدارس الهندسة، سيقبع في أسفل هذا السلم. فأن يقرر فرد حصل على معدلات دراسية مرتفعة في الفيزياء والرياضيات ولوج كلية الاقتصاد أو الآداب هو أمر جلل سينظر له المجتمع بكثير من السخرية والريبة أيضا.

تعتمد جميع أنظمة التعليم العالمية اليوم في المرحلة الأخيرة من التعليم الثانوي تصنيفا للأشخاص حسب مسارات أدبية وعلمية واقتصادية، تسهيلا لعملية دمجهم في سوق العمل. النظام التعليمي الحالي يقوم على إنتاج نفس الأشخاص بمعدلات ذكاء مختلفة وتصديرهم لسوق العمل حسب الحاجيات المتغيرة، قليلون من يختارون الخروج عن هذا المسار واتباع مايحبون فعله سواء داخل النظام أو خارجه. هذا النظام صمم بطريقة تمنعه إلى حد كبير من أن ينتج لنا أشخاصا كسقراط وفكتور هيغو والعديد من الشخصيات الاستثنائية التي غيرت التاريخ. فهل تحت مسمى القابلية للتشغيل يمكن أن نجد هؤلاء الأشخاص في الشركات العالمية الحالية ؟ بالطبع لا.

مقالات مرتبطة

يتغير عالمنا اليوم بسرعة كبيرة منتجا تخصصات دراسية كثيرة نتيجة للتقدم التكنولوجي، وينعكس هذا على اختيارات الأفراد وأحلامهم، بحيث يتجهون إلى ما يريده السوق لا إلى ما يريدونه هم، ومتطلبات سوق العمل اليوم تتضاعف بتزايد المعارف الإنسانية، الأمر الذي أجبر النظام التعليمي لدى الإنسان على تكييف مخرجاته مع السوق حتى يلبي حاجياته، والخطأ ارتكب عندما تم تقسيم تخصص الإنسان المعرفي إلى أدبي وعلمي بطريقة صرفة، وتم إهمال تكوينه على معارف أساسية في التخصصات الأخرى، وبالتالي الحكم عليه بنمط تفكير محدد يفتقد لأبسط أسس التفكير النقدي والمنطقي. يتناسى الناس أن الإبداع والنجاح المهني يأتي بحب ما تفعل، لا بممارسة ما يريده الآخرون منك. ليس من المطلوب اليوم منك أن تكون موسوعيا متبحرا في جميع العلوم بدرجة أولى، ولو أن هذا الأمر سيعود بالنفع عليك أولا ثم على المجتمع، لكن المفروض أن تقرر ماتريد أن تبدع فيه وأن تسعى لأن تعود بالنفع به على الإنسانية.

“لا يدخل الأكاديمية إلا مَن درس الهندسة”

أفلاطون

نأتي لمناقشة رصينة لقضية الفصل غير المفهوم في تدريس علوم تعتبر أدبية وأخرى علمية. فقديما كنا نجد فلاسفة وعلماء ذوي معرفة موسوعية في العديد من المشارب العلمية كالرياضيات والفلسفة والطب والفلك، وبالمقابل نجدهم متبحرين في علوم الدين (العصر العباسي مثلا)، وكما قلت فليس المطلوب أن نكون مثلهم، فهذا شبه صعب اليوم، ويتطلب عقولا جبارة ذات قدرة عالية على التفكير والتجريد وعلى حفظ الملايير من المعلومات واستحضارها سيما في ظل عصر يتسم بتفجر المعلومات والمعرفة المتفرعة.

فأغلب فلاسفة الإغريق جمعوا بين التفكيرين الفلسفي والرياضي، الأمر الذي انعكس على جودة إنتاجهم الفلسفي. ويتبع هؤلاء نفس الآلية في التعبير عن أفكارهم المجردة، بين لغة رمزية مجردة من القيم وبين جمل منطقية، انطلاقا من مسلمات وصولا إلى إثبات النتائج. حتى إن البرهان الرياضي مبني على المنطق الذي كان أساس الحجاج بين فلاسفة الإغريق. والمقولة المنسوبة لأفلاطون والتي يقال إنها نقشت على بوابة “الأكاديمية”، حتى لو لم تكن منقوشة ماديا، إلا أنها شكلت الأساس الذي على إثره أسس هذا المعهد على تفكير منطقي رياضي.

وفي نهاية المقال، فلنحاول الخروج بفكرة عن المعضلة التي يعيشها معظم الناس اليوم بمختلف أعمارهم وأجناسهم. فمن جهة نجد الأطفال حيارى لا يعلمون ما يريدون فعله في الحياة سوى أبطال تابعوهم، وحتى إذا شابوا ظهرت علامات السخط والندم على سنوات حياة ضيعوها في مسارات لم يكن لهم دخل فيها، فقط لأن ذلك سيكسبهم مالا ويضمن لهم سداد فواتير الكراء والكهرباء ومصاريف الأكل اليومي.

وإن كان طلبة اليوم لم يجدوا في المدراس ما يفتقدون ويعشقون، فقد أصبح ملاذهم الوحيد هو التعلم الذاتي، سواء من الكتب أو الإنترنت الذي فرض نفسه منافسا شرسا لنظام تعليم الدولة، هذا الأخير يسائل اليوم جدوائية مؤسسة المدرسة. وإن كانت المسارات التعليمية لفئة اجتماعية تعبيرا عن أهدافها، فإن الخروج عن مسار ما، يتطلب إعادة إنتاج مسارات أخرى تدخل في إطار رؤية لعالم اجتماعي يراعي في مخرجاته تفكيك البنى التي شكلت المسارات السابقة.