معاني.. من أندونيسيا

0 2٬477

كتبت عن بعض ما قمت به عندما زرت أندونيسيا، لكني لم أكتب عن الدروس التي يجب استخلاصها من تلك الزيارة. فبعد أن زرت مجموعة من المراكز و المدارس العتيقة Pesantren التي تشكل أكثر من 60% من المدارس في أندونيسيا، بالإضافة إلى دور الأيتام بكل ما وجدت فيها من حب و عطف و حسن تنظيم، شغلني شيء واحد!

فكل المدارس التي زرتها سواء في مدينة شيربون أو بانجيوانجي هي عبارة عن أوقاف. أعطيكم مثالا: الشخص الذي تشاهدونه (في هذا الفيديو) في المسجد مع الطلبة و هم يحيونه بعد الصلاة في الدقيقة 1:09 هو من يسمى في الثقافة الأندونيسية بKyay أو المعلم الأكبر.



هذا الشخص الذي تخرج من جامعة جاكارتا في العلوم الإسلامية، على صغر سنه، هو من بنى المؤسسة التي لا يدفع الطلبة فيها روبية واحدة (عملة أندونيسيا)، و هو نفسه من بنى المسجد الجميل داخل المدرسة و التي يصلي فيه أهل القرية أيضا، و هو نفسه صاحب مزرعة البرتقال (1 هكتار) التي تظهر ابتداء من الدقيقة 2:04.

أروع ما في الأمر أن هذا الشخص قد وهب حياته لما يقوم به، فالمؤسسة وقف و المسجد وقف و المزرعة وقف، فبالربح الذي تجنيه المؤسسة من بيع البرتقال يُشترى الأرز الذي يطعم به الطلبة. نظام وقفي قوي، كامل و مستقل يذكرنا بالأنظمة الوقفية التي كانت منتشرة في بغداد و دمشق ما بين القرن 12 و 17.

 

في المغرب و في كثير من الدول ذات التاريخ الإسلامي، النطق بكلمة أوقاف يعني التحدث عن وزارة من الوزارات، بل و توحي في بعض الأحيان باسم الشخص الذي يجلس على رأس تلك الوزارة، خصوصاً إن كان قد قضى ما يقارب 15 سنة في نفس المنصب ولا أحد يعلم هل بتوفيق أم بكثرة حمد الإله، و خصوصا إن كان تسيير أغلب المساجد تابعا للوزارة، و إن كانت الخطب تكتب و ترسل من طرف الوزارة.  من بين الكوارث التي وضعتنا فيها الدولة الوطنية الحديثة Modern Nation State كمسلمين، أنها قد أفرغت الأوقاف من فحواها.




تعتبر الأوقاف Religious Endowement من أهم الأنظمة التي أتى بها التاريخ الإسلامي، سواء تلك التي شكلها الأفراد و العائلات أو تلك التي أسستها بيوت مال المسلمين عبر العصور. فكان من الأمور البدهية آنذاك أن تلتقي بشخص “وقفي”، أي أن ولادته تمت في مؤسسة وقفية، ذهابه إلى المدرسة في مؤسسة وقفية، ذهابه للتمريض في مؤسسة وقفية، الكراء و العمل و الاستثمار عن طريق مؤسسة وقفية، السفر و الاكتشاف عن طريق مؤسسة وقفية، تربية قطة محتضنة آتية من مؤسسة وقفية، الكفن و الدفن عن طريق مؤسسة وقفية في قبر تابع لمؤسسة وقفية مرفوق بدعاء و تلاوة قارئ مأجور عن طريق مؤسسة وقفية. و لم يكن أحد آنذاك يعتبر أن الناس يستفيدون عن غير حق من هذه الخدمات أو أنهم كسالى بسبب استفادتهم من النظام الوقفي، لأنه نظام أخطبوطي متشابك من الناحية المجتمعية، تماماً كالزكاة.

 

%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%82%d8%af%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%82%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%a7

فالنظام الوقفي يرتكز على نص (ما يسمى بنص الوقفية) يحدد مقتضيات الوقف بالتدقيق من حيث الأصل و التفرع،  فلم يكن مسموحا مثلا في بداية التطور الإسلامي أن يكون الوقف نقديا، بل كان من الواجب أن يكون ماديا معروف القيمة. تعتبر مدينة بغداد من الأمثلة البارزة فيما يخص الأوقاف، حيث أنها كانت تحوي 18 مستشفى كلها وقفية. فكان من الممكن أن يأتي الشخص إلى المستشفى و أن يسأل عن أي نوع من أنواع العلاج أو الدواء دون أن يدفع درهما واحدا. نفس هذه المستشفيات كانت مقرونة بمراكز بحث لتشجيع البحث و تطويره. أما في دمشق فكان يوجد فيها واحد من أغرب أنواع الأوقاف التي يمكن أن يقف عندها الباحث في التاريخ الإسلامي. وقف يتعلق بمن يشتغل مساعدا في بيت من البيوت، سواء في الصيانة أو التنظيف أو البستنة، بحيث إن حصل و كسر شيئا من أواني أو أدوات البيت يستطيع أن يأخذها مباشرة إلى المؤسسة الوقفية فيُعوَّض عن ثمنها، و ذلك من أجل الحفاظ على المبدأ النبوي: “كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته”. الخلاصة أن كل أنواع الأوقاف كانت موجودة ما دامت لا تتنافى مع نص قرآني أو مع سنة نبوية، كتوزيع الخمر أو التشجيع على القمار مثلا. و لم يكن ممنوعا أن يدخل تاجر من التجار في شراكة مع وقف معين من أجل الاستثمار ما دامت الإبستمولوجيا الهدفية الأولى هي الرزق الذي يستهلكه الإنسان و يتم غسله بالزكاة و ليس الربح الذي يتركه بعد الممات، خصوصاً أن أصحاب الأوقاف هم أنفسهم من كانوا يشتغلون في تسيير الوقف و يحصلون على راتب محدد من خلال اشتغالهم في الوقف، تماما كالمعلم الأندونيسي صاحب المدرسة. بمعنى أن صاحب الوقف هو نفسه من يسير الوقف، و إن كان الوقف ليس ملكاً سوى لمن يحتاج خدمات الوقف.

ما حصل في نهاية  القرن 19 هو استيلاء الأنظمة الحاكمة على تلك الأوقاف أو على الأقل التدخل و التغلغل فيها، و ما حصل في القرن 20، هو احتواء تلك المؤسسات بالكامل من طرف الدولة الوطنية الحديثة. هذا الاحتواء لم يتم كما هو مشاع بسبب فشل النظام الوقفي، ففي المذكرات الاستعمارية البريطانية تقارير تبين كيف أن النظام الوقفي كان مدرا للربح آنذاك، و إنما السبب هو أن هذا النظام كان يشتغل خارج إطار الدولة الحديثة و مؤسساتها. لهذا تم خلق جهاز خاص بالأوقاف، سواء مكتب أو وزارة تابعة للجهاز الحكومي في الدولة. طبعاً، حجة خلق هذا النوع من المكاتب و الوزارات كان هو تقنين النظام الوقفي، لكن الحقيقة أنها كانت طريقة بشعة للاستيلاء و لاحتواء الفائض الوقفي تحت سلطة الدولة.

masjid_raya_medan_indonesia

 

سابقا، كان يوجد في قلب كل مدينة إسلامية (حتى من الناحية الهندسية) مسجد يتفرع منه عدد من الأزقة المليئة بالدكاكين. كل تلك الدكاكين كانت عبارة عن أوقاف يتم من خلالها تمويل كل المشاريع النابعة من المسجد، لكن عن أي مسجد نتحدث؟ هل نتحدث عن مسجد يقفل بين صلاة و صلاة بحجة الأمن الروحي؟ أم نتحدث عن مسجد جامع، مؤسسة كاملة المعالم و متفرعة المجالات لا يمثل فيها الجانب التعبدي إلا جزءًا صغيرا و إن كانت فلسفة التعبد في الإسلام متجذرة في كل قول و فعل، فالآية تقول: “قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين”. لماذا لا يعي أصحاب المال في المغرب أن بناء المساجد في كثير من الأحيان لا يعدو أن يكون شبه ضياع للمال و إن كان فيها من الأجر ما فيها؟ لماذا لا يعي إخواننا المحسنون (بارك الله في أعمالهم) أن “الجامع” بالمعنى النبوي قد تم محوه في مغربنا الحبيب؟ ما جدوى بناء مسجد ينقر فيه المصلون الصلاة نقرا، إن كان يوجد على بعد 50 متر مسجد آخر لا يتجاوز عدد المصلين فيه الصفين. لماذا لا يقوم أصحاب النوايا الحسنة بالذهاب إلى البادية و شراء قطعة من الأرض. جزء منها يخصص لبناء مدرسة داخلية مجانية، و الجزء الآخر يزرع و يستثمر فيه لأجل التمويل. الأمر طبعا يحتاج إلى تخطيط و دراسة، لكن تعميمها في القرى سيحل أو على الأقل سيساهم بشكل كبير في حل مشكلة التعليم و بعد المدارس لا محالة!

علينا أن نعي بواقعنا، و أن ندرك أنه في هذا الوقت بالذات و أمام هاته الحال، فنحن لا نحتاج إلى بناء مساجد للسجود إنما نحتاج إلى بناء العقول التي ستسجد!