منطق الاستهلاك

لقد كنت منذ أمد ليس ببعيد، أشد حبا لمساحيق التجميل والملابس بل أشد ولاء للموضة بحذافيرها، كنت أتقتر شحا لتجميع ما يمكنني من شراء ما أحلم به من قمصان وأحذية ووشاحات بالألوان الدارجة في الانستغرام. حتى كان يصل بي الأمر للتنبؤ بما سيأتي من ” fashion” واختراع ستايلات كانت نوعا ما مميزة. كنت أحس أن الناس ستمقتني وتحتقرني إن لم أبد بزي يتماشى مع موضة الفصل، وأحس بالفخر لأني لبست شيئا لم يسبقني له أحد.

كانت تمر بي أيام انتكاسة كالتي لا زالت تمر بالفتيات المراهقات؛ بحيث لم تكن تسنح لي الظروف المادية للخروج لاقتناء الجديد والدارج على الموضة حينئذ. وما يزيد الانتكاسة تعاسة أنني أتابع كل يوم عشرات بل مئات المؤثرين. كنت أظن أن باقتنائي المزيد سوف أحس بالكمال وبعدم الحاجة لذلك، حتى أصبح الأمر ملحا إلحاح الضرورة.

كنت أحس أنني أفقد قيمتي في عيون نفسي، بهذا الولاء الزائف والتقيد المرضي بأشياء لا تزيدني ولا تنقصني قيمة سوى أنها تملأ دولابي بين فينة وتصير دون فائدة بين أخرى.

كان هذا منذ ثلات سنوات، أما وبعد قراءتي لكتاب عن التنمية الذاتية -كتاب يتحدث عن معرفة الذات والعقد النفسية بعيدا عن وهم التنمية البشرية الذي أصبح سائدا- والذي أثر كثيرا في نظرتي للأشياء، على أنها أشياء وأن قيمة الذات إن لم تنبع من شيء داخلي محض فلن تستمدها من الخارج. أصبحت حينها أقدر النعم لا المادة وأرى القيمة لا الثمن، أقدر صحة البدن لا عدد ما أملك.

أصبت بعدها بإضراب عن جميع أنواع “material” الذي نتوق لامتلاكه دون سبب منطقي، صرت أتعامل بمنطق الامتلاك للضرورة، لا منطق الشهوة والموضة. لكن القليل من سيفهم هذا المنطق؛ المنطق الذي يجعلك تتحمل نظرات الازدراء لا لشيء سوى أنك عدلت عن شراء قطعة جديدة تروق الناس وصرت لا تهتم إن لبست شيئا بمقاييس الموضة أم لا.

مقالات مرتبطة

لا يتعلق الأمر بالملابس فحسب، بل قس على ذلك كل أنواع الأشياء القابلة للامتلاك؛ من هواتف ذكية وسيارات أو حتى أفرشة وأثاث…

كانت هذه تجربة حافلة جعلتني أكثر معرفة بما يقيدني، والغالب أن معظم الناس تعاني من هذا المرض لكن لا تلقي إليه بالا، مرض الاستهلاك بدون حاجة، مرض لم يظهر للتو، كلا، لقد كان نتيجة طفرة الاستهلاك في فترة التسعينيات والتي مهد لها انتشار بطاقات الائتمان في الغرب. مما جعل الناس يتهافتون على الشراء والاقتناء دونما رادع. لكن ثقافة كهذه لم تكن لتصلنا في الوقت ذاته، فاضطرت للمكوث حتى تسنت لها الفرصة لذلك، والتي تمثلت في دخول الشركات العالمية أسواق بلداننا، تلاها غزو أسلوب الدعايات الغربية من خلال خلق حاجات وهمية.

قرأت مرة: “إن كل الأشياء التي تحكمها الرغبة والدوافع اللامنطقية تكون بلا شك ذات مرجعية نفسية سيكولوجية”، فالرغبة في الاستهلاك والتملك بلا حاجة معقولة تكون مقرونة في غالب الأحيان إما بنقص في الثقة بالنفس، أو بحث عن قيمة الذات عن طريق امتلاك أشياء عُرفت على أنها تجلب القيمة. ومن التفسير الذي يلخص ويوفي كل ما في جاء سياق المقال، هو ما ذكره مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي:سيكولوجية الإنسان المقهور”، والذي ذهب في تأويله إلى أن: “الكثير من التصرفات الاستعراضية التي تشيع في البلدان النامية، تهدف بالتحديد إلى التستر على عقدة العار خصوصا الاستعراض الاستهلاكي. تأتي بعده كل أشكال الادعاء والتبجّح وخداع الآخرين بجاه أو مال أو حظوة لا أساس لها من الواقع. إن إنسان العالم المتخلف هو أسير المظاهر مهما كانت سطحيتها، ما دامت تخدم غرض التستر على عاره الذاتي”.

إلا أني في هذا المقال تناولت موضوع الاستهلاك والرغبة في التملك من جانب نفسي محض ولم أسبر كل جوانبها وخصوصا الاجتماعية والثقافية، والتي تشكل الحجر الأساس لهاته المشكلة.

والمقصد من هذا المقال ليس أن أثنيكم عن الشراء كأنه عدو لي، لكن ما أنبه إليه؛ أن الاستهلاك ينبغي أن تحكمه الاحتياجات والضرورات وليس الرغبات والعقد النفسية أو الاجتماعية.

إن أهم شيء في رحلة الحياة أن يتصالح الإنسان مع عقده ويعترف بها، فذاك هو السبيل الوحيد لحلها أو تجاوزها، وليس إخفاؤها بأشياء واهية، تضع المرء في دوامة الاستهلاك المفرط غير المنطقي وتؤول به لامتلاك أشياء لا فائدة منها.