أتحسَّسُ المكانَ من حَوْلِي ، أدَقِّقُ في تفاصيلِه الصَّغِيرةِ و أطِيلُ التَحديقَ .
كُلُّ الأَشْيَاءِ تُنْبِئُنِي بأنّ بَدْري قَدْ غابَ و حلَّت من بَعْدِهِ اللَّيَالِي الظَلمَاءُ تَرْثُوهُ ؛ وداعًا يا ضياءَ القَمَرِ !
يُخَيِّمُ السَّوَادُ علَيَّ و على كلّ ما يُحِيطُ بي في هذا النفق و يتسلَّلُ الوهنُ إلى أْصَالي . لا أقوَى كثيرًا على المقاومةِ فأسلّمُ نفْسِي لِدوّامَةٍ تَجْرِفُنِي و تَجْرِفُ معها سيل أفكارِي المُتقَطِّعَ . أصطدم بِمَطبٍّ مرّةً ، تُؤْلِمُنِي وخزاتُ الأشْوَاكِ مرَّاتٍ أخْرَى و أتعثرُ أحيانًا في الحواجزِ فأنْكَسِرُ كطائرٍ جريحٍ متهاوٍ كسرتْهُ رغبة مُلِحَّة في التحليقِ .
بعد ذلك أُغمِضُ عينيَّ و أمْضي ، لا أعرف أيّة طريق أسيرها ولا أجدُ حائطًا أتكئُ علَيْهِ إلى أنْ يطوفَ بي صوتُ نسِيمِ الصبحِ يحدّثُنِي : “هناك أضواء في آخر النفق ، حتمًا ستؤنسكِ و تنسيكِ ”
لتتوَقفَ بذلكَ دوّامَتِي و تسْطَعَ الشمسُ تضيء ظلمتي و ظُلْمةَ النفقِ فأنْسَى ما مضى كأنّه لمْ يكنْ ..
هذه كلّها أشياء تحدثُ لي دائمًا و في كل مرّة تطْلُبُ منِّي عبرةً لكنّي قلّما أعتبرُ .
يحدثُ دائمًا أنْ تصيبنا وعكات يتملّكنا فيها الحزنُ ، نعيشُ معهَا دمارًا داخليًّا ينخرنا ، يُشلّ تفكيرُنا من شدَّة التفكيرِ فنَنْهارُ على حافّة أحلامنا . يحدث دائمًا أنْ تتبعثر أشلاؤنا في مفترق الطرقِ ، نُبصِرُهَا بأسًى ، تبكيها عيونُنا ولا تقوى أيدينا على لَمْلَمتِهَا .
و يحدُث أن تنفخَ الرِّيحُ في أشيائنَا الجَمِيلَةِ لتغدوَ بعد ذلكَ ذكرياتٍ نتقفَّى أثرَها بإرادتنا لتمحوَ لَنَا أثرَنا كلَّمَا حيَت .
في كل مَرَّةٍ ، نحْسَبُهَا الخاتمة قد دَقَّت و نحسبُ عقارب السّاعة تتسارع نحو النهاية بعد أن عهدنا بُطْأها و لا عزاءَ مع هذا يعزّينا … لكن أملاً جديدًا يطلُّ علينا يعيد للرُّوحِ روحَها و عنايةً تحيط بنا من حيث لا ندري تقوّينا ، في كلّ مرّة نُشفى من وعكاتنا و تُقام من جديدٍ جدرانُنَا . تقوى أحلامنا و تولدُ فينا أحلام أخرى . يلمُّ شتاتُ أرواحِنا لنصنعَ لنا ذكرياتٍ جديدةً أكثرَ جمالاً و أعمقَ أثرًا ، فلا حزنَ دائم و كل شدَّةٍ لا محالة زائلة .
و أظلُّ أنا هكذا ، أفرح حتّى إذا ما أصابتني مصيبة أهنُ و أتيهُ في حلقاتٍ مفرغةٍ لا أعرف كيف أخرجُ منها إلى أنْ أصبحتُ منذ فترةٍ أقتنع شيئًا فشيئًا بأنّ الأصلَ في الأشياءِ مزْج بين بياضِ النورِ و سوادِ العتمِ لأنّ منطقَ الحياةِ
قوّة بعد كبوةٍ و شفاء بعد مرضٍ و رزق بعد فقرٍ ،
إذ نضعف و نقوى ، نمرضُ و نشفى ، نحزنُ و نسعدُ و تلكَ الأيّام يداولها الله بيننا .
دائمًا نزخَم بِالفَرَحِ بعد الحزنِ و نُجهر بالنور بعد الظلمةِ . لا يَستطيعَ الكونُ برحابتهِ أن يَتَّسِعَ لفرحتنا إذا فرحنا و لا تملك الأرضُ بكلِّ ما فيها منْ جاذبيّةٍ أن تجذب منّا ضَحِكَاتِنَا و تواريها عَنَّا .. وكمْ أزمةٍ اشتَدّتْ و راودتنا الوَسَاوِسُ فَابْتَأَسْنَا ثمَّ فُرِجَتْ و بُهِجنَا ثُمَّ تُعيدُ الأَيّامُ من بعد ذلكَ نفْسَهَا لكنّنا نَنْسى !
*تعالوا نتأملْ في أَضْوَاءٍ أضَاءَتْ أنفاقَ يوسُف و يعقوب :
إذا ما قرأنا في سيَّر الأنبياءِ تبيّن لنا أن كل سيرةٍ كان لها من الحزنِ نصيبًا و من الفرج بعد الحزنِ مخرجًا لتكون كلّها عِبَرًا جعلها الله لنا لعلَّنا نعتبرُ .
كلم أصاب يوسُفَ أضعفه و غمّ حلّ بيعقوب أذهبَ بصره ، ثمّ ألمْ يُكرّم يوسف من بعد ظلمه أيَّمَا تكريمٍ ؟ ألم ينتقل من ضيق بئرٍ إلى سعةِ قلوبٍ و سعةِ دنيا بأكملها ؟ ألمْ تُفرج كُربتُه و يزُلْ حزنُه ؟
بلى ، أضاءت الأضواء أنفاقَ يوسف في كلّ مرّة اٌظلمت عليه فيها ، أشرقتْ شمسُهُ بعد كلّ غروبٍ و طلع في الأخير فجرُهُ متزيًّنا بنسائم الحقِّ .
طال البُعد ثمّ عاد ليعقوب يوسُفُه و لعيني يعقوب نورُها إذا ما لُمّ الشّملُ من بعدِ الفرقةِ . لتضيء الأضواء كذلكَ نفقَ الاشتياقِ و التلظي الذي ظل فيه يَعقُوبُ سنينًا ليس له فيها نُور .
و تبقى لنا من بعدِ يوسف و يعقوبَ قصَّة هي منْ أحسَن القَصَصِ ، نقفُ عنْدَهَا ، نتأمّلُ معانِيهَا و نَتَّعِضُ مِنْهَا و مِمَّا تزْخَمُ بِهِ من عبرٍ جِديرَةٍ بأن تُحبّرَ بمَاءٍ من ذهبٍ في دستور الحياةِ.
قصَّة هي في الحقيقةِ تجْسِيد أمثل لمَعنى المراوحةِ بينَ الأَشْيَاءِ و معكوساتها ، و ما أحوجنا إلى أن تتحول هذه المراوحة عندَنا إلى بديهةٍ ضمنَ باقي بَدِيهَاتِنَا .
*”لولاَ الظلامُ لما عشقنا النورَ” :
يقول الكاتب الأمريكي أوج ماندينو “سأحترم النورَ لأنه يريني الطريق، كما أنَّنِي لن أنسى أن أحترمَ الظَّلاَمَ لأنّهُ يريني النجوم في حياتي.”
و أجدُ فيما يقولهُ ماندينو إجَابةً لأسْئِلَةٍ تَتَرَدَّدُ في ذِهْنِي دائمًا ،
أسألها لنفسي مرارًا و تكرَارًا ، ماذا لو كانتْ الدنيَا بأكملها نور ؟ و ماذا لو لم تكن لنا خيبات ولا مِحَن و أزَمات ؟ ماذا لو لم نكن لنعرفَ للحزنِ معجَمًا في قواميسِ حياتِنا ؟ …
كنتُ دائمًا أعْلَم يقِينًا رغم كلِّ ما يراودُني ، أنّ ربّك الذي جعل لنا الحزْنَ كما الفرح لَه حِكْمَة في ذلك .
حتّى صرت أوقنُ بعد كلّ انكساراتي بأنّ الظلامَ الذي يحجبُ عنّا النورَ من زاويَةٍ أولى ، يغرسُ فينا التّوقَ للنور و تقديسَه من زاويةٍ أخرى أوسعَ أُفُقًا . هذا الظلام الذي لولاه لما عرفنا النورَ ولا قدّرنا قيمتَهُ ، و لعلّها حكمة من حكم الله .
ختَامًا ، لا أقول لك ابن جدرانًا تمنع عنك الحزنَ لأنّ المحنَ لن توقفَ مدادَها إلَيْكَ ، كلُّ ما أوصيكَ به أنْ تَسَلَّحْ بالصّبرِ قدر ما استطعتَ ، و ليسَ الصّبرُ بتحمّلِ المصائب سلبًا و إنّما “بأن تنْظُرَ إلَى الشوكةِ و ترى الوردةَ و تنظرَ إلى الليل و ترى الفجرَ ” بالضبط كمَا وردَ في قاعدةٍ من “قواعدِ العشق الأربعون” ، أي أن تثقَ دائمًا بأنّ الأضواء تنتظرُك في آخرِ النّفقِ و أنّ كلّ ما عليك هو أنْ تبْحثَ بكلّ ما أوتيتَ من صبرٍ عن آخرِ النَّفقِ .