ولطلابنا علينا حقا

الأحاديث في بلادنا عن التعليم تكاد لا تنتهي، التصنيفات الدولية تحيلنا على مؤخرة الترتيب، النتائج داخليا مخيبة، رجال التعليم يشتكون من تدني المستوى و من عدم اكتراث التلاميذ، المتمدرسون بدورهم لا يتوقفون عن الشكوى؛ يشتكون من أساتذة لا مبالين أحيانا، غير أكفاء أحيانا أخرى، من إداريين لا يستمعون لهم ينهرونهم فقط عند كل لقاء…باختصار الأحوال تنبئ عن انفصال بين الأطراف المتدخلة، كل يعيش بعالم مغلق لا نوافذ له على عوالم الآخر.

أنا اليوم لا أكتب لتعداد كل مشاكل التعليم و لا لطرح كل تشخيصات و أعراض الداء و لكني أكتب لأعبر عن حلم يخص التعليم ببلدي راودني منذ ما يقرب العشر سنين أو أكثر؛ بالضبط يوم شاهدت مسلسلا سوريا البطلة فيه مرشدة نفسية و تربوية بمؤسسة ثانوية للبنات.

منذ تلك اللحظة إلى الآن وأنا أتساءل لم لا يوجد بمدارسنا مرشدون نفسيون و تربويون؟ ألقلة الموارد البشرية؟ أم لضعف في الميزانية؟ فقر حاد في التفكير الجاد في حلول للمشاكل الواقعية؟ أو ربما لانعدام أمراضنا النفسية و اختلالاتنا السلوكية؟

أما بخصوص السؤال الأخير -و هو السؤال الأهم- ، فوزير الصحة سبق و أجابنا عنه قائلا أن نصف المغاربة يعانون من اختلالات نفسية، أظن أن الإجابة كافية و ممرضة في حد ذاتها تدفعنا دفعا لاستنفاذ الإمكانيات كلها بشرية و مادية بحثا عن دواء؛ و لعل أول الدواء تنصيب مرشد نفسي لكل حي و لكل مؤسسة تعليمية ما دامت نقطة الانطلاق هي الحي و المدرسة.

نبقى في المدرسة و أعود للمسلسل، حجم العمل الذي كانت تقوم به المرشدة النفسية -البطلة- كان فعلا جما لأنه كان مطردا مع حجم المشاكل التي كانت تعاني منها الطالبات الذي كان جما أيضا، خاصة وأن الطالبات كن في مرحلة الثانوي بكل ما تحمل هذه المرحلة من تحولات وضغوط وأسئلة كبرى وعميقة، الشيء الذي جعل المرشدة تشتغل بالمؤسسة وخارجها.

Dangerous-Minds-8
من فيلم Dangerous Minds
مقالات مرتبطة

حياة التلاميذ و الطلاب في بلادنا لا تبتعد عن المسلسل كثيرا، فمن أتيحت له الفرصة للاقتراب من هذه الفئة سيحس حقا بحدة المشاكل و انعدام الارتياح النفسي لهؤلاء، فمشاكلهم متعددة تتفاوت ما بين مشاكل أسرية عائلية، مادية ، مشاكل في الهوية و العلاقة مع الذات، في العلاقات و الحب، في الدراسة و الاختلافات مع الأساتذة… جوانب كثر التوازن فيها مختل اختلالا يؤثر على السلوك و الروح و المردودية و الفلاح.

التلاميذ و الطلاب في بلادنا يحتاجون طرفا محايدا، يستمع لهم دون أحكام مسبقة، دون نهر وقمع، يحتاجون من يعاملهم لا كتلاميذ مستهترين أغبياء ولا كأبناء عاقين ضائعين. يحتاجون من يساعدهم في الإجابة عن تساؤلاتهم الوجودية، من يخبرهم أنهم بشر يستحقون حياة كريمة، يرشدهم إلى الحكمة القائلة أن لكل منا ماسته الداخلية الخاصة به، والتي تميزه عن السبعة ملايير إنسان الذين يتقاسمون أرض البسيطة.

لو أتيحت لكم الفرصة للقاء مقرب مع هؤلاء، و سألتهم عن أعتى مشاكلهم لكانت أنهم لا يصدقون أنهم من الممكن أن ينجحوا و يتفردوا بإنجازاتهم، فآباؤهم قد أغرقوهم بجمل من قبيل “أنت فاشل”، “إلى طفرتيها هوجهي”…و أساتذتهم قد بالغوا في مدحهم بجمل من قبيل “أنتم أسوء جيل نراه”، “الأجيال السابقة كانت تفوقكم ذكاء و حياء” إلخ…فكيف لنفس مهتزة بهذا الشكل تحمل هذا الثقل من احتقار الذات وعدم احترامها أن تنجز وتثابر وتتفوق؟

لو مررنا بمؤسسة إعدادية أو ثانوية، لاندهشنا من حجم التجمعات حول باب المؤسسة وفي نواحيها، تجمعات خلال أوقات الدراسة يستهلك أثناءها التلاميذ وقتهم في المحادثات والاستماع إلى الموسيقى والمشاجرات وألعاب الأكروبات.

كل هذا الوقت الضائع من عمرهم ومن تقدمنا كوطن، كان ليستغل فيما فيه نفع لهم و لنا جميعا، لو أننا شجعناهم، آويناهم واستمعنا لهم.

كل هذا العنف الذي نشاهده من تلميذ يضرب أستاذا، و أستاذ يطرد تلميذا، و شجارات لها أول ما لها آخر، وعلاقات تستنزف القلب وتذهب العقل كنا لنتجاوزه لو أن بالمؤسسة شخص مهمته أن يتقرب من كل تلميذ، أن يعرف مشاكله، أن يعينه على تحديد وجهته و الغاية من وجوده، أن يلعب دور الوسيط بينه و بين أساتذته و والديه إن اقتضى الأمر. تبقى المؤسسة التعليمية مكان يقضي فيه التلميذ أغلب وقته و تبقى الأطر التربوية أقرب إلى التلميذ لكشف ما يعكر صفوه و ما يعترض طريقه.

مرشد نفسي و تربوي يحب عمله، يأتي لمكتبه كل صباح من أجل غاية أسمى من الدخل الشهري، باستطاعته أن يحول المؤسسة إلى فضاء سلام فيه من المعرفة و المثابرة و الأحلام ما يروي المجتمع بأكمله، ما يؤمن حاضر و مستقبل الأمم؛ لأنه سيسهر على تخريج شخص سوي له من المعرفة و له من الغايات و له من التوازن النفسي ما سيجعله عاملا منتجا، و أبا أهلا لأبوته، و مواطنا صالحا يأخذ الدمار ليشكله بناء مبهرا، بناء مستوحى من عمارة و بناء و زخرف روحه.