الإنتلجنسيا

انطلق رسول الله صلى الله وعليه وسلم فردا وحيدا، مع أنه مؤيد بقوة العظيم ومسنود بتوجيه الحكيم، وموجه بنور العليم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانة التجديد للبشرية جمعاء من خلال إتمام مكارم أخلاقها، وورث رسول الله فكرة التوحيد وتحمل مسؤولية إيصالها للعالمين.
بدأت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيه رباني حركي عملي اعتمد خطاب الأمر المباشر للفرد المخاطب (شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم) – قد يكون أيضا شخص الفرد المؤسس المجدد أيضا- إن كانت نية الاستنان بطريق المصطفى في وقت انطلاق الأعمال الكبرى الوارثة لرسالته.
حمل التوجيه الرباني أعمال ترتيبية تراكمية ثلاث:اقرأ (الفهم)، قم الليل إلا قليلا (العبادة)، قم فأنذر (الحركة والعمل).
1- #اقرأ : لا تعني بالضرورة المباشرة القراءة وإن كانت المعنى الظاهر، وإنما هي دلالة المعرفة في مستواها الأولي والفهم في مستواها الكامل، فهم طريق الخلق وغايته ومعرفة مبتدأه ومنتهاه، وفهم جملة السنن الحاكمة للإنسان وأداة تعليمه القلم ومعلمه الفرد الصمد، فكانت بداية الطريق التزود بنور الفهم المحقق لمقام الخلافة الصحيحة، والمتحقق بفضل التوجيه الرباني.
وكذلك بداية الدخول لقرون جديدة يكون فيها الإسلام هو القائد الشاهد، تنطلق بامتلاك القلم والفهم المحقق للانتقال للشهادة على الأمم.
2- #قم_الليل_إلا_قليلا : وهي زاد القلب وغذائه وغاية وجود الإنسان وسر استخلافه، وهي المعينة له وقت الحاجة والمثبتة له وقت الهوان والساندة له زمن الضعف، فهي مفتاح الارتباط بالقوة العظمى وبوابة نيل التوفيق وسبب نيل الرضا قبل وبعد النصر والتمكين.
ولذلك كان منطلق الإصلاح التربية السلوكية الإيمانية والصناعة الأخلاقية وترسيخ المبدأ الأخلاقي في الفرد والمجتمع.
3- #قم_فأنذر : هي نفض غبار القعود، والانتفاض لحمل لواء العمل وولوج مضمار الحركة والعمل، بعد فهم الواقع وسننه ب “اقرأ”. وبداية العمل هو الانتقال من الفرد إلى المجتمع في الفهم والإيمان والارتقاء من الشخص إلى المؤسسة وبعدها الدولة في مراتب الحركة والعمل!

تشكيل الحاضنة القيادية
.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً رمزا بين قومه نتاج جملة القيم والأخلاق التي تلاحمت بشخصيته حتى أصبح القاصي والداني يشهد له بها – الصادق الأمين- مع أن ذلك لم يشفع له حتى وُصِف بنقيضه واتهم بعكسه وأكثر بمجرد أن أصبح أيقونة الإسلام ورجل إصلاح المجتمع الجاهلي. فكما أن حمله لرسالة التوحيد جالبا للمشككين في نبوته المحاكمين لنيته، المتهمين له في ابتغاء كسب المال والجاه والسلطة من وراءها، كان تحمله للأمانة جاذبا للأوفياء المخلصين المدافعين عنه، المسبلين أرواحهم من أجله، من شباب المجتمع الأول سباقا عبر إيمانهم بالرسالة التي حملها رسول الله وحرصهم على تحقيق الرؤية التي أقنعهم بها رسول الله.
لم يكن الإنتقال في الفهم والإيمان من الفرد للمجتمع ميسرا في هذا الجو المشكك في النبي الفرد المؤسس لرسالة الإسلام، المشكك في فكرته ابتداءً والمهاجم له في شخصه لحاقا (كحال كل الأفكار الجديدة
).


كانت نقطة التحول في تحقيق انتشار الدعوة وانتقالها من فؤاد رسول الله إلى دوائر المجتمع الجاهلي عبر مرحلية واقعية عقلانية هي فتح رسول الله لمدرسة أو أكاديمية أو جامعة “الأرقم بن أبي الأرقم” حيث تمت صناعة الحاضنة القيادية من شباب المجتمع الإيماني من الأوائل في دار الصحابي الفتى الأرقم، لقد نحت رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيات أولئك الشباب إيمانيا تربويا حتى رسخ فيهم الإيمان العميق وصنع عقولهم وأفهامهم وفق المنهج القرٱني، وجهزهم لأن يكونوا النواة الصلبة الحاملة لثقل الدعوة بمجرد الانفتاح على المجتمع.
لقد كانت النواة الصلبة من الشباب (وأضيف لهم كبار الصحابة والشخصيات) حاضنة حقيقية حمت الفكرة ودافعت عن رمزها رسول الله صلى الله، فكان ارتباطهم برسول الله ارتباط الفكرة التي تربوا عليها والمشروع المشترك الذي رباهم رسول الله عليه
.
لقد كانت الحاضنة القيادية هي الإنتيلجنسيا التي حافظت على الفكرة بعد وفاة رسول الله فكانت الوفية له في حياته بتقديمه وبعد وفاته بوراثة وإكمال استراتيجيته، فكانت هي الارتقاء من الشخص إلى الجماعة ومن التأسيس إلى المؤسسة، فأصبح رسول الله يطبق استراتيجية الدعوة من خلال قيادة هذه المجموعة المؤمنة الربانية المتحركة بزاد الإيمان والفهم. وانتقل الحركة من الساعد الواحد إلى السواعد الصلبة العاملة التي نمذجت عملها.
لذلك القائد الفذ من يصنع الحاضنة القيادية الوفية له ليس كشخص بل كرمز حامل لفكرة التجديد، ولذلك انتشرت المدارس الفقهية والفكرية التجديدية عبر المؤسسات المختلفة بقوة الحاضنة القيادية و جملة المريدين والتلاميذ المخلصة للفكرة التي نشأت فيها والتي ترقب تحقق الرؤية التي اجتمعت على تحقيقها، بشرط أن لا يكون ذلك مدعاة للجمود المحقق للعصبية والتوقف عن الاجتهاد المولد للضمور

لإصلاح وصناعة الفهم!
إن عملية الإصلاح في وقت فساد العقل وتغوّل الغريزة لهي المهمة التي قامت بها النماذج الربانية العظيمة بأمر من العظيم، مظهرة رحمة الله على خلق عاهدوا على العبودية له وحده يوم أن خلقهم. رسم الأنبياء برسالتهم التاريخ البشري الصحيح فرفعوا القناديل المضيئة في وقت الظلمات وأناروا الدروب الداكنة فأصبحت مزهرة منيرة، حملوا على عاتقهم الأمانة الغالية التي وجب على أمة الخير أن تحملها من بعد وفاة إمام الأنبياء والنموذج الإنساني الفريد والفرصة الربانية الأخيرة للبشرية لتعود لفطرتها وتحقق غايتها وتقوم بمهمتها إنها رسالة الإنسان القدوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لطالما كان الإصلاح مهمة الإنسان النواة في المجتمع والرجل القدوة الصانع للتاريخ. ولطالما كان الإصلاح اجتباء ربانيا وتوفيقا إلهيا فلذلك تزهر تلك القيمة المركزية في حياة الأنبياء شعارا حيّا لغاية تواجدهم على هذه البسيطة ” إنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚوَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ” .
الإصلاح هو بقاء لرسالة الأنبياء واستمرارية في البناء والدعوة إلى حد الوصول للزمن الذي تعود في الأمة لكتابة التاريخ وقيادة الأمم كما وعدها الحق. لسنا مكلفين بالنتيجة لأن ذلك قدر رباني على من اختار له ذلك الشرف في يوم مخصوص، لكننا مكلفون بشرف بقاء جذوة مشعل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي بها تكون خيرية الأمة في أي عصر كانت والإصلاح في المجتمع بالتوجيه نحو فضائل الأخلاق وتربية النفوس على عزم الأمور مع دفع للفساد المستشري فيه، فذاك سر حياة المجتمع الإسلامي وبقاء عزّه، وما إن يُترك هذا العمل إلا ويكون المجتمع صاغرا خائفا مترددا ضعيفا مشتتا فيسهل على العدو استعماره وسلب حقوقه وبل الأخطر السيطرة عليه ونزع قوته الأصيلة بقتل فكرة الإسلام في أبناءه وتلك هي القابلية للاستعمار أو الاستعباد

ديناميكية الإصلاح بين السهولة والاستحالة
!
إن الإصلاح عملية معقدة مركبة لكنها لا تخضع لذهاني السهولة والاستحالة، فلا هي سهلة بسيطة مؤدية إلى طريق وردي أعمى منتظر للصلاح بلا حركة ولا مستحيلة كما هي عن البعض الآخر مؤدية إلى الشلل الثقافي الراكد والمحافظ على الواقع المر.
بين سهولة الإصلاح واستحالة التغيير يوجد المنهج الوسطي للإصلاح والتغيير الذي يرى في المنطق الفكري العملي الواقعي أداة لتحريك ركود الأمة ودفعها للحركة التنفيذية السائرة على سنن التغيير وأدواته.
إن الإصلاح استمرارية حركية ديناميكية معروفة المنطلقات واضحة المعالم، جلية السنن والنواميس من سار عليها بإخلاص وصواب وصل ومن حاد عليها خاب وسقط.
تجلية كل ذلك في عقول الجيل المثقف الذي نريد تخريجه ليقود البشرية أولوية هامة، وضرورة ملحة التركيز، بإدراج فهم رسالة الإصلاح ومنطلقاته وأدواته الممكنة المتضمنة رؤية النهضة وأفكارها التجديدية المعتمدة على الواقع والمراكمة لكم الاجارب السابقة في المناهج التربوية والتدريبية والتأهيلية.
لقد انتشرت في واقعنا المريض أفكار ميتة وقاتلة تراكمت في المجتمع الإسلامي عبر التاريخ الإسلامي الرحب أو استوردها بعض الأغبياء من واقع ثقافي وفكري لا يمت لمجتمعنا الإسلامي بصلة. تلك الأفكار ولدت أدواء عدة في عقل الأمة الجمعي ، ومن الأمراض الناتجة عن فصيل السهولة في الإصلاح، مرض اللفظية.
ذاك الداء العضال الذي أنهك جسد الأمة ولا زال يقتل إبداعاتها وتظهر للمصلح الحاذق أعراضه المتمثلة في تجميل المصطلحات وتكديس العلوم دون دور عملي اجتماعي. خلق لنا هذا المرض تطورات مرضية أخرى دفعت بالأمة إلى نقيضين؛ التبرير والجدلية، منها من تبرر للمجتمع عوض إصلاحه أو صناعة الوهم ايكزوفوريا المدح والافتخار المنادي للأموات والمستدعي للماضي المغطى على عيوب الأمة المخدر للمجتمع.
بعيدا عن هذين الطريقين غير الموصلين لمبتغى الإصلاح، دعونا نتعرف فقرة بفقرة عن صورة الإصلاح وملامح تحققه على مستوى الفرد والجماعة، فكرا وسلوكا، تربية وثقافة، ذوقا وفنا، فعالية وحركية وبناء وإنتاج

1xbet casino siteleri bahis siteleri