السلطة والحرية: أية علاقة؟

تعد السلطة والحرية من أهم الثنائيات التي شغلت الرأي العام العالمي، وكانت محل نقاش دائم في كافة الأوساط ومنابر الإعلا، وسأحاول قدر الإمكان تبسيط المفهومين وتقريب القارئ من هاته الثنائية.

أولا في إطار بحثي، لا أجد بدا من استحضار مفهوم السلطة عند ماكس فيبر التي تشغل حيزا واسعا من ضمن أعماله وأولوياته في البحث، ويعرف ماكس فيبر السلطة “بأنها نوع من القيادة التي تعمل لإيجاد طاعة أو ائتمار عند أشخاص معينين” وقسمها إلى ثلاثة أنواع:

  • أولا: السلطة العقلانية القانونية Rational – Legal

في البداية، يمكن القول إن ماكس فيبر يعرف العقلانية على أنها مفهوم تاريخي يتضمن عالماً كاملا من التناقضات وعلينا أن نبحث عن الروح التي ولد منها هاذ الشكل الملموس من الفكر ومن الحياة العقلانيين.(1)
والسلطة العقلانية تستمد شرعيتها من القانون، والطاعة والخضوع، وفي الديمقراطية الحديثة نستطيع أن نقول إن الذين يمارسون السلطة يمارسونها وفقا للدستور.

  • ثانيا: السلطة الكارزمية Charismatic Authority

والمقصود بالكارزما هي الخصائص “الخارقة” التي يملكها شخص معين سواء كانت حقيقية أو وهمية، ويعتقد المعجبون بالشخصية الخارقة أن القائد الكارزمي Leader Charismatic، هو مبعوث العناية الإلهية ويحقق الخيرات لأهله وأتباعه، ويستمد سلطته من الاعتقاد الشعبي، وهو ملهم للشعب، ويحمل صفات خارقة للطبيعة، والكارزما هو النظام الشخصي للقائد الذي يملك الإلهام والنظرة النبؤية والغريزة السحرية، وهي تلك القدرة فوق العادية للقائد الذي يحقق حكمه الشخصي ويجعل سلطته ملزمة والتاريخ الغربي والشرقي مليء بقيادات كارزمية واضحة.

  • ثالثا: السلطة التقليدية Traditional

تعتمد هذه السلطة على الإيمان بالتقاليد وتقديسها، وتأتي شرعية هذه التقاليد من إيمان أكثر الناس في المجتمع بقدسية النظام وقوته على السيطرة كما ورثها من الماضي في التقاليد القديمة المتوارثة، وشرعية السلطة فيها، كما أنها تستمد مكانتها الاجتماعية من الأفراد الذين يتمتعون بالسلطة.

أما ميشيل فوكو فقد تجاوز مفهوم السلطة بوصفها مفهوما مركزيا يعكس علاقة النظام السياسي أو الدولة بالأفراد، إلى مفهوم يتشكل من مجموعة العلاقات والنظم المتشابكة، يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعرفي. لقد ابتكر فوكو بحسب جيل دلوز مفهوما جديدا للسلطة، كان ضالة الجميع، الكل في بحث عنه دونما معرفة السبيل المؤدي إلى اكتشافه، أو حتى التعبير عنه. (2)

أما بخصوص مفهوم الحرية فقد جفت فيه أقلام الباحثين سواء من قبل فلاسفة أو كتاب وكان أبرزهم جون ستيوات ميل، وتكمن خصوصية فلسفة ميل في وضعها للقاعدة التي تحدد سلطة المجتمع على الفرد، وهذه القاعدة هي نواة الفكر الليبرالي المعاصر. يرسم ميل حدود سلطة المجتمع على الفرد عن طريق تفريقه بين نوعين من الأفعال: الأفعال التي يتعدى أثرها الفرد القائم بها، وتلك التي لا يتعدى أثرها الفرد نفسه، ليستنتج بأن للمجتمع الحق في تنظيم الأفعال من النوع الأول فقط، أما الأفعال من النوع الثاني، فإن تدخل المجتمع فيها يؤدي إلى طغيان الأغلبية.

إن تفرقة ميل بين هذين النوعين من الأفعال هي بمثابة القانون العام الذي يضع الحد الفاصل بين الحرية الفردية وبين التنظيم القانوني؛ أي بين حق الفرد في الاستقلالية والخصوصية وبين مسؤوليته تجاه مجتمعه (3).

أما زعيم الوجودية ”جون بول سارتر” فهو يربط وجود الإنسان بالحرية باعتبار الإنسان غير الحر ليس بإنسان “فالحرية ليست معطاة بشكل قبلي وتلقائي، بل الإنسان هو من يسهم في تحقيقها وخلقها فالإنسان لا يوجد، حسب سارتر، إلا إذا اختار نفسه بحرية عاملا على خلق ذاته. (4)

كما أن هيغل قد قارن الحرية بالملكية، وبيَّن أن الملكية هي شكل تعين الحرية الموضوعية، وشاع بين الباحثين ارتباط السلطة بالملكية أيضاً، وقد ذهب فوكو في اتجاه مختلف؛ إذ رأى أن السلطة هي استراتيجية أكثر منها ملكية، ولا ترجع آثارها ومفاعيلها إلى تملك ما، بل تعود إلى تدابير وحيل ووسائل وتقنيات وأعمال.” (5)

ووسط هذا الزخم الفكري والفلسفي للمفهومين يُطرح إشكال عن العلاقة بين السلطة والحرية، هل هي علاقة صراع أم علاقة قائمة على الانسجام؟ وإذا قورن بين كليهما لمن ستكون الأسبقية، للحرية أم السلطة؟

تقوم الفرضية الأولى على أساس أن الصراع بين السلطة والحرية قائم لا ينضب، وأننا ونحن نحاول الحديث عن هاته الفرضية لا محيد ط من استحضار شيء من التاريخ، فالصراع الذي أقامه النبلاء ضد العرش البريطاني في الزمن البعيد لم يكن إلا من أجل تقليص سلطات الملك المطلقة، وذلك تحت شعار الحرية في شكل “الماكنكارتا، الهابياس كوربوس…”، هذا وتَحضُرُنا الثورة الفرنسية سنة 1789 التي أحدثت قطيعة كلية مع السلطة المطلقة، حيث تم ذلك كله باسم “الحرية”.

يظهر بشكل جلي أنه من خلال محك الممارسة أن الصراع بين السلطة والحرية قائم منذ زمن بعيد أي منذ أن وجدت الجماعة البشرية وتنوعت وتعددت، وعليه، فإن عنصر الصراع لم يقف عند علاقة الفرد بالدولة، بل يجدُ له صدى داخل الأسرة الصغيرة في البيت أي المنزل، إذا فالسلطة والحرية في المجتمعات الديمقراطية قطعت أشواطا عديدة اتسمت أغلبها بطابع عنفواني انتهى بمسلمة تقوم على أساس أن الحرية فوق السلطة، هذه النهاية المشرقة جعلتنا نقف متأملين في زاوية معاكسة قصد طرح مدى إمكانية استلهام هذه المسلمة داخل المجتمعات ”المتخلفة”.

قد يثور الاعتقاد أننا إزاء حكم قيمة عندما وضعنا المجتمع الديمقراطي في كفة وانطلقنا في البحث عن المفهومين ”السلطة والحرية” داخل المجتمعات “المتخلفة” في كفة أخرى، ولا تفوتني الفرصة للقول بأن البعض قد يرجح كفة السلطة على الحرية في المجتمعات المتخلفة بحجة أنها غير مؤهلة لذلك، وأن منسوب الثقافة السياسية يبقى ضعيفا داخلها وأن نسبة الأمية مرتفعة، هذا ليخلُص البعض الآخر إلى أن المجتمعات المتخلفة لا يمكن ضبطها إلا بواسطة نظام سلطوي قائم على الحكم الفردي المستبد.

أما عن تحقيق التوازن بين السلطة والحرية ولو بصورة مقبولة وليست مثالية، يؤدي إلى نتائج هامة على صعيد نظام الدولة لعل من أهمها إشاعة روح المواطنة بين أفراد المجتمع، فالمواطنة هي ليست حق الحصول على الجنسية بل هي الآمال والآلام التي يشعر بها المواطن تجاه بلده، فيجد بالعمل على تحقيق الآمال والقضاء على الآلام التي تحيط ببلده وأبنائه عن طريق التزام العمل المفيد والصالح لبلده.

——————
مراجع وإحالات:

(1) ماكس فيبر روح البروتستانتية ص11-19.

(2) مقال بعنوان منظور الفلسفي للسلطة عند ميشيل فوكو: ثورة في المنهج للأستاذ حسام أبو حامد.

(3) راجع جون ستيوارت ميل. أسس الليبرالية السياسية. ترجمة أ.د.إمام عبد الفتاح إمام وأ.د. ميشيل متياس. مكتبة مدبولي.

(4) مقتطف من مقال حول الحرية والإنسان…بين وجودية سارتر وفاعلية آلان تورين للأستاذ الزاهيد مصطفى.

(5) جيل دو لوز، المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1987، ص 31.

-ماكس فيبار Weber Max: فيلسوف وعالم اجتماع، وسياسي ألماني، أتم درساته الثانوية في برلين في الرابعة عشر من عمره. وفي الخامسة عشر كتب أول مقالة له وهي “تأملات في خصائص وتطور وتاريخ الشعوب في الأمم الهندية الجرمانية”، كما أتقن عدة لغات، وأتم دراساته الجامعية وأصبح محاضرا في الاقتصاد وفي والوقت نفسه كان ميتماً بالسياسة ما بين الحربين العالمين الأولى والثانية، ومن أهم مؤلفاته: “الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية”، و”الاقتصاد والمجتمع”.
-البروتستانتية: تعني في الإلتينية “المحتج”، وهي إحدى الاتجاهات أو الطوائف الدينية عند المسيحيين.
ظهرت في أوروبا في القرن السادس عشر في زمن “الإصلاح” في وجه الكنيسة آنذاك.

-بخصوص نفس الموضوع أعلاه راجع كتاب “السلطة والحرية ل ليو تولستوي” هو كتاب يُظهر فلسفة تولستوي وتعاليمه الروحية من خلال العلاقة بين مفهومي السلطة من ناحية والحرية من جهة أخرى. وهو يعد من الكتب النادرة في مسيرة تولستوي، ومن خلاله سنتعرف على أقوال وحكمة أديب روسيا العظيم وفلسفته في الحياة والسياسة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri