الطاحونة

كانت اليدان تتناوبان بتناسق تام في استعمال المقبض، يد تدفع ويد تجر. ترتاح هي لوهلة حينما يجر هو القبضة نحوه، ويرتاح هو لوهلة أخرى بعد أن يمسكها القبضة ثانية.
كذلك كانا يديران الرحى، إلى أن يستخرجا ما بحبات الاركانة التي يملكانها، أو يحضرا ما تيسر من القمح للعجين.
عجين الذاكرة هذا، يرسم علاقة شخصين في جميل صورها ،امرأة لا يسمح ضعفها في أن تتحمل مشقة تدوير طاحونة الحياة لوحدها، ورجل يعترف بأنه لن يكون قادرا على الإمساك وحده بالقبضة والاستمرار في العملية ماتبقى من حياتهما لوحده. فلا أحد ينكر أن الآخر مكمله، وأن الأنانية تلغى بتاتا في علاقتهما إن كان هدفهما هودوامها وضمان استقرارها. فكلاهما يعلم أنه في الحالة العكسية ،لا الطاحونة ستدار ولا حبات الأركانة سوف تغني.
حالة النكران هاته هي ما تجعل أغلب المشاريع الأسرية والعلاقات الزوجية تبوء بالفشل. فحين ينخرط الشخص في مشروع بناء عشه وعش قرينه، نجد أن تحفيزه ينبثق من سعيه وراء سعادته الشخصية دون الإيمان واليقين بأنه ينخرط في مهمة أكبر ألا وهي حاجة الطرف الثاني للسعادة، حاجته في أن تمسك عنه القبضة ليسترجع أنفاسه، ويستمربعد كل وهلة راحة بتدوير رحى الحياة.
لا أتحيزو أنسب هذه الحالة إلى الذكر بكوني أنثى ،فالمسألة تعني الإثنين معا. الهروب من المسؤولية أو السعي في تحقيق السعادة الشخصية على حساب الاسرة بكاملها أمر نجده عند الجنسين.
البعض هنا سيشاركني الرأي في مسألة الهروب من المسؤولية، لكنه سوف يرى في السعي وراء السعادة الشخصية أمرا عاديا، وسيقول مجيبا أن سعادة الطرف الاول ستنعكس على سعادة الكل، وأن ليس بالأمر أنانية ولا شيء.
نعم، الامر كذلك لكن متى؟

مقالات مرتبطة


حين يطلب الشريك من قرينه السماح له في وهلة يمسكه بها زمام القبضة، وينسحب في مدة الاتفاق لكي يجري وراء سبب سيسعدهما معا بمجرد عودته. وكذا حين يختار الوقت المناسب ليطب منه ذلك، وهو مدرك إدراكا تاما بأنه ترك الرحى بيد الآخر وحده وبأن حبات الأركانة تنتظر وصول الطرف الثاني لكي تعصر جيدا وتنتج. في هذه الحالة فقط نجد التوازن المستمر.
بيد أن أغلب الحالات ليست تعيش هذا التوازن، فإما أن تكون الأنثى تلعب الدورين معا، تدير الرحى عبر العمل وأشغال البيت و الأبناء، بذرات ألأركانة.أو تجد الرجل، منهك القوى خارج البيت وداخله، يعمل ويربي ويصنع الكثير وهمه الوحيد هو إسعاد الاسرة بكاملها. لكن هذا الأمر في مجتمعنا يبقى أكثر شيوعا عند المرأة.
خلل يثقل كاهلها، كونها الكائن المضحي غالبا بسعادته وتحقيق ذاته، والمستنبط لرضاه من عيش بقية الأفراد باطمئنان ولو على حساب صحتها وحالتها النفسية، تحت شعار الصبر عنوان المرأة والزوجة الصالحة. لكن بمجرد أن تشتكي يوما من استنفاذها لقواها الجسمانية، والروحية في تدوير الرحى، تصبح في نظر المجتمع رجالا وحتى نساء من بني جنسها ، كائنا غير صبور ،شخصية ضعيفة، وجمالا مرتشيا، لأنها وبكل بساطة مسكت القبضة لوحدها دون أن يستأذن منها أو يعترف شريكها لها بما تقدمه من تضحيات وهو إما يتهرب من المسؤولية أو يسعى سعادته فقط بكل ما بالأنانية من معنى.
التضحيات إذن هي السبب؟ لا، ليس كذلك.فطريقة و توقيت تقديمها هما الفارقان. وهذان يستدعيان حضور العقل والقلب معا. والحوارالسلس بهما يذكر كلا الطرفين بأن رحى الحياة لا تدار لوحدها أو بشخص آخر غيرهما. ولا تكتفي بطرف يدير وطرف لا يتقن غير الجعجعة دون الطحن.
أما بذرات الأركانة تلك، تلحظ هذا الخلل بمجرد أن تعي كيف تدار الرحى. فحين يكبر الأبناء قليلا تجدهم يميلون كل الميل إلى من لاحظوا حظوره المعنوي والمادي معا طيلة زمن طويل. أما من كان حضوره بتفاصيل حياتهم قليلا أو منعدما، لا يكترثون لحضوره أو غيابه. ولا يغنيهم حديثه شيئا وإن كان معقولا وحكيما. فهم سمعوا كثيرا ولم يروا طحنا أو مساعدة للطرف اللي كان الأقرب إليهم.
عمق الحديث بهذا الموضوع يتخطى كثيرا، كتابة أسطر أو نقاش برنامج . هو باحة تفكير في طرق التربية المعهودة.هو مسرح توازنات مختلة بهذه الحياة، هو دعاء إلى التفكر والتفكير في دور الأنثى كأنثى ودورالرجل كرجل طبيعيا قبل أن تنضاف مهمات العصر إليهما وينخرطا جليا في العيش تحت سقف الحياة الزوجية المعاصرة.
معانيه صعيبة الفهم أيضا، تبتغي حكمة وهمة. همة لإشارك الطرف الثاني بملئ إرادته في إيجاد التوازن وتحقيقه وحكمة في تليين المسألة وتبسيطها لمن انقلبت عليهم الموازين وهم لا يدرون حتى أنهم يلعبون دور البطل والكومبارس معا في نفس المسلسل، رحى الحياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri