مرت أيام طويلة من شهر رمضان و لم يتبق إلا القليل، أيام معدودات و يطلق سراحك من سجنك السنوي و كربك الأبدي، لتعود لمهمتك الأزلية اللي ارتضيتها لنفسك منذ طردك من حضرة الملك القدوس، حيث كنت من المقربين، فأصبحت غايتك و سر وجودك غوايتي عن الصراط القويم و الوسوسة إلي بخبيث القول والعمل.
ولكن رغم عداءك الظاهر لي و حيلك المكشوفة، تعلمت الإعراض عنك و الضحك على أساليبك البائدة، بل أشفقت عليك كمن يشفق على عزيز قوم ذل، و سيد قوم هان و ذبل، لكني أعلم أنك لا تمل ولا تكل، عزيمتك و إصرارك ليس لهما مثيل إلا رحمة ربي التي وسعت كل شيء.
لكن لك عندي أخبارا لن تسرك… فقد لجمت لساني في هذا الشهر الكريم عن بذيء القول، و غضضت من بصري عما لا أملك، و طوعت نفسي على الصلاة والقيام مع قوم أبرار صالحين، و عاهدت الله أن احفظ مواقيت ذكري و أن أصوم عن قبيح الخلق و الفعل كما أصوم عن أكلي و شربي.
أعلم أنك قادر على ثنيي عن قراراتي كما فعلت مرارا و تكرارا فلست محتاجا لتذكيري بذلك، لكني لن أكل عن مراقبة الله في قولي و عملي، و لا بأس إن سهوت فجل من لا يسهو، و لا بأس إن ضعفت فتبارك القوي الجبار، قد تتمكن مني وساوسك حينا، لكني سأستغفر الله أحيانا، فليس القوي من لا يقع، لكن القوي من يقف دوما بعد كل كبوة.
ماذا بك لا تجيبني… أم تراني أفحمتك يا مهين…. أم يا ترى ماذا تحضر لي بعد رمضان من مصائد تزيغ بي بها عن جادة الصواب ؟ و لماذا يا ترى أحس بك قريبا مني لا تفارقني حتى في شهر سجنك و وضعك في الأصفاد أم هي فقط نفسي الأمارة بالسوء التي تلاعبني و توهمني بوجود شيطان لا وجود له ؟ أتراني أظلمك باتهامي هذا و أنت منه بريء ؟
لطالما علقت ضعف إرادتي و استسلامي لشهواتي على شماعة وساوسك، و لطالما أخافتني ألاعيبك و اجتهدت في التعوذ منك و النأي بنفسي عن الإستسلام لنزغك و أنا و أنت شركاء في هواني على نفسي، لذلك فأنت اليوم في نظري، بعدما خبرت قوة نفسي و شهواتها، قليل الحيلة، ليس لك علي من سلطان إلا أن أستجيب لك، كما أستجيب لنوازعي الخبيثة التي لا شأن لك بها…
لطالما تمنيت سؤالك عن هذا القدر الذي اخترته لنفسك، بعدما كنت سيد المسبحين، فأصبحت بقدرة الله من المبعدين في غياهب الأرض البعيدة، أما كان لك أن تستجيب لله رب العالمين لما أمرك، أم أنك لم ترد السجود لغير الله، ولو بأمر من الله…
أم تراك اعتبرته ابتلاءا و امتحانا، فكيف تسجد لغير الله و قد جبلت على عبادة الله الأحد، و كيف لي أن أذمك و ذنبك الوحيد أنك لم تسجد لغير الله، و بنو جلدتي يسجدون كل يوم لأصنام ابتدعوها و يرمون باللوم عليك، أنت الذي، يوم سجد الجميع، أبيت أن تسجد لغير الله…
