في مقام الصمت

“يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت.”
الإمام علي بن أبي طالب.

هنا مقام الصمت، برزخ التلاقي بين عوالم الكون المرئي واللامرئي، مقام تطأ فيه قدماك أرضين متنافرتين نفور الروح من المادة، وتستنطق خرس المسافات المحتملة بينك وبين الآخر ، وتستشعر رحمة الاعتزال.

الصمت تمرين روحي سلكه كثير من الزهاد ونبغ فيه العارفون واعتنقه المتصوفة لبلوغ ما لا يُبلغ باللسان، في كل العقائد السماوية التوحيدية والوضعية على مر التاريخ.

عرض كثير من العلماء لآيات الصمت في القرآن، فجاء اجتهادهم بين الشرح الظاهري والتأويل الباطني، وبين الطبري والغزالي والزمخشري والسيوطي، تستطيع اقتفاء حضور الصمت وتدرج كراماته واستلهام دلالاته بين أنبياء الله و أوليائه.

عندما بُشر زكريا عليه السلام بيحيى كانت آيته الصمت ثلاثة أيام {قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّىٓ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} سورة مريم. وعندما وضعت السيدة مريم عيسى معجزة الخلق والتكوين من أمر “كُن” نذرت للرحمن صوما عن الكلام… {فَكُلِى وَٱشۡرَبِى وَقَرِّى عَيۡنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِىٓ إِنِّى نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمًا فَلَنۡ أُڪَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيًّا} [سورة مريم].

قد نتساءل هنا بسذاجة عن غرابة هذا القربان الرمزي في سياقات إعجازية مماثلة، كيف يكون الصمت كافيا لإيفاء قداسة إلهية حقها؟ لو لم يكن يضمر حقا نُسُكا ربانيا أقدس من المعجزة نفسها؟

مقالات مرتبطة

نجد زهد الكلام وتحري الصمت مقدسا شائعا عند الساموراي وفي الكونفوشيوسية والطاوية وفي البوذية؛ يعتبرونه حلقة تطهير لا محيد عنها لطمس ضجيج المادة والاتحاد بالكون، وبالمطلق اللامدرك والتماهي في ملكوته، وفي ذلك تفصيل يُجمله معتقد التناسخ والتقمص.

إنه مقاربة غيبية لفك شفرات العالم، تلك الشفرات التي تنطق بلغات موازية لا نفطنها، لغة الهدهد أو النملة التي أدركها سليمان دون جنده. أسرار الميتافيزيقيا المكنونة في الوجود الصامت الذي ذوَّب في خلده كل الماهيات.

أن تعتكف لماما في محراب ذاتك، أن تتخفف من ثقل لسانك ومن سلطانه الجامح أول خطوة نحو التأصل في الروح البدائية للأشياء، خطوة نحو الملمح الملائكي، ذاك الملمح الذي نروم بلوغه في انكساراتنا وانفعالاتنا أو لما يقض سكينتنا شبح المصير.

الصمت هو أن تعتزل أناك المتضخمة من فرط الروتينات الزائفة وغواية السلالم الرأسمالية، وتفتح صفحات روحك على كائنات أخرى عهدتها بكماء من حولك.

هو أن تسمح للصوامت بأن تلقنك سرها، هو أن ترى العالم عاريا من الصفات وتُؤول الوجود من زوايا أخرى لا يهدأ سريانها، الصمت هو أن تتقصى رسائل الله المكنونة في كل التفاصيل.

الكون سلسلة من الخوارزميات الدقيقة، المتناسقة والبديعة، أودعها الله آياته، ورسائله، وإعجازه، ولغز البدايات والنهاية، حقائق لن تكاشفك أبدا ما دمت مستغرقا في ضجيج العبور.

1xbet casino siteleri bahis siteleri