لا تحزن…لعله خير

بعد اعوام من الدراسة و ليال طويلة من السهر تحت ضوء المصباح الكهربائي و فناجين القهوة المركزة، غالبا كنت أنتهي من المذاكرة بالنوم على الطاولة فوق أوراق الزبدة المتراكمة، ليوقظني صوت المنبه المزعج على الساعة السادسة صباحا حتى أستغل نسمات الهواء الصباحية في ترسيخ بعض المفاهيم و المصطلحات العلمية او الأدبية، ثم أجهز نفسي بعد ذلك للإلتحاق بمؤسستي التعليمية.
كنت لا أعرف شيئا أخر غير الدراسة، أتقن كل المواد الدراسية لاسيما العلمية منها، حيث ينبهر زملائي بالفصل من شدة ذكائي في حل أصعب التمارين الرياضياتية و الفزيائية.
إنتظرت بفارغ الصبر اليوم الذي سأحصل فيه على شهادة الباكلوريا، على المفتاح الذهبي للوصول الى الهدف الذي لم يفارقني و لو لحظة واحدة، كان حلمي ان اكون مهندسة معلوميات مرموقة، لأكتشف بواطن ذلك الصندوق العجيب و خلفيات البرامج المعلوماتية و التطبيقات الالكترونية، لأكتشف قواعد و أسرار لغة “الصفر و الواحد”، لكي أتمكن يوما من اخضاع ذلك الحاسوب الذكي لأوامري. ما زلت أتذكر جيدا أيام اشتغالي في العطل الصيفية و عطلة نهاية الأسبوع في ورشات الاعمال اليدوية لأحصل على بعض الدريهمات بعد ساعات من التعب و العناء جالسة على مخدة ملتصقة بالأرض من كثرة الجلوس عليها ، مقوسة الظهر و مطوية العنق، كنت أعمل منذ الساعة السابعة صباحا إلى تمام نظيرتها مساء، مع إستراحة منتصف النهار مدتها ثلاثون دقيقة، حتى اتمكن من كسب مصاريف ادواتي المدرسية، بينما أقراني يسافرون في العطل رفقة ذويهم الى المدن الساحلية و الجبلية، يتسلون و يمرحون و يلامسون امواج البحر التي كنت لا اشاهدها الا على شاشة تلفزتنا التي لا تشتغل إلا بعد ضرب صندوقها الكبير عدة مرات، الذي يضم بداخله ألاف الصور و أشرطة الفديو المرتبة و المعروضة الواحدة تلو الأخرى حسب إعتقادي الطفولي آنذاك.
بالرغم من ذلك كنت أفرح بأبسط الأشياء ،متفائلة بغد افضل و راسمة في مخيلتي صورة مشرقة لنفسي مستقبلا. لم أفوت أي فرصة دون استغلالها للحديث عن الأحلام و الأهداف التي ترويني حماسا و طموحا كلما تكلمت عن تفاصيلها لصديقاتي في الحي.
لم تغمض جفناي قط منتظرة لحظة الإعلان عن نتائج الباكلوريا بأحاسيس ممزوجة بالحماس و الخوف، كما كانت تروج في ذهني اسئلة ما تزيدني إلا قلقا حول مصير أحلامي التي كافحت من أجلها كثيرا، فجأة رن هاتف أبي الثقيل الذي طالما كبست أزراره الصلبة محاولة فهم برامجه البسيطة و كيفية عملها، تشير شاشته الصغيرة إلى مكالمة واردة من صديقتي المقربة، ضغطت على زر الرد لأتلقى خبر نجاحي بميزة “حسن جدا ” بشعبة العلوم الفزيائية.
بعد هذا الخبر السار، زادت رغبتي إشتعالا لإقتراب أجل تحقيق المراد الذي ثابرت من اجله عدة سنوات، بعد مرور بضعة ايام، استدعيت لاجتياز إمتحانات الولوج للمدارس العليا للعلوم التطبيقية و الهندسية ليتم قبولي للدراسة في إحدى فروعها بشمال المغرب، غير ان القدر ربما سيغير مصيري مئة و ثمانين درجة.

مقالات مرتبطة


عم الفرح كل أفراد أسرتي الصغيرة لهذا النجاح المستحق، عدا أبي الذي لم يتقبل فكرة الدراسة خارج المدينة التي نقطن بها رغم أنه كان طالما يشجعني و يحفزني منذ طفولتي. فوجئت كثيرا من ردة فعله، لأسئله بخيبة أمل : “ما الذي حدث يا أبي، ألست أنت من تخبرني بإستمرار أنه من واجبنا الركوض وراء احلامنا و أنه لا وجود لشيئ إسمه مستحيل مادام قلبنا ينبض و الدم يجري في عروقنا؟!” ، ظل صامتا لبرهة من الزمن ثم أجابني بصوت مختلط بالخوف و الحنان “بلى، لكن كيف أتحمل بعدك عني؟!”
دائما يحرص الأب على إخفاء دموعه و ضعفه حتى ان تعلق الامر بأصعب المواقف و أشدها ألما، يبتسم باستمرار ليريح قلوبنا، بينما قلبه يتقطع ألما، يوفر كل متطلبات العيش الكريم لأسرته حتى تنام في هدوء، بينما باله لا يكف عن التخميم لايجاد عمل إضافي يمكنه من تسديد ديونه، من أجل ضمان إستقرار بيته، غير أنها أول مرة أرى فيها الخوف في عين ابي، و أحس الحنان في قلبه، و الحماية في صوته.
كان صعب علي جدا الإستسلام لقدري و التخلي عن كل ما حلمت به السنوات الفارطة، لكن ليس من الصواب و الآداب رفض طلب والدي، الذي ضحى من اجلي بالغالي و النفيس طوال حياته.
بعد ثلاث سنوات من الرتابة و ضغوط الامتحانات و التداريب الميدانية المتعلقة بالتمريض في الإنعاش و التخدير، وجدت نفسي أمتهن عملا لا أحبه أبدا لدرجة أنني أراقب الساعة مرات متكررة في الدقيقة الواحدة منتظرة بملل نهاية اليوم لأغادر قاعات المركب الجراحي المخيفة، و اقسام الإنعاش المرعبة.
في أحد الأيام داخل غرفة العمليات الخاصة بجراحة النساء و التوليد، إستقبلت إمراة حامل في مقتبل عمرها، أشار طبيبها المعالج أنها لن تتمكن من إجراء الولادة المهبلية لكبر حجم جنينها، أجريت معها إستجوابا يتضمن بعض الأسئلة الروتينية المتعلقة بالتخدير، كانت تجيبني بعينان تدمعان، و بصوت يغلب عليه شهيق البكاء. ثم سألتني بنبرة حزينة: “هل سأبقى مدة طويلة تحت تأثير البنج بعد الإنتهاء من العملية؟ ما الذي سيحدث بي ؟ هل من الممكن أن أعيش مرة أخرى بعد توقف تنفسي؟”، حاولت تهدئتها نفسيا كما أحقنتها بعض المسكنات، فطلبت مني رؤية زوجها و طفلتها مشيرة أنها من المحتمل أن تكون لآخر مرة في حياتها، لم أوافق على طلبها رغم إلحاحها لأسباب وقائية.
عندما مسكت محقنة المخدر، رفعت السيدة سبابتها لتتلفظ بالشهادتين دون إنقطاع حتى سقطت يدها مرتخية على طاولة العمليات، حينها حدث شيئ غريب في داخلي ترك أثرا عظيما في قلبي و غير جل معتقداتي أو بالأحرى منحى حياتي، جعلني أدرك أن الله تعالى سخرني لإمتهان عمل شريف فيه رحمة للناس و أجر كبير من رب العالمين كما جاء في محكم كتابه عز وجل: “من أحيى نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا”
منذ تلك اللحظة بدأ يزيد تعلقي بالإنعاش و التخدير يوما بعد يوم، لأتذوق طعم المتعة عندما يخبرني المريض الذي خدرته أنه لم يحس بأي ألم خلال العملية و بعدها، أو عندما يغادر المستشفى مريض طالما راقبت معاييره الحيوية بكل جوارحي لأصححها إن كان بها خلل ما.

1xbet casino siteleri bahis siteleri