أناي

كنت أشتم رائحة غنم تعانق الطبيعة، رائحة الحنين إلى البادية، اقتعدت الأرض؛ لامست العشب بيدي اليمنى، حضنته بعيني، استنشقت هواء النقاء ثم زفرته، أحسست فجأة أني موجودة، تواشجت والطبيعة كنا واحدا. فتحت كتابي حين اقترب حيث أنا، اقتعدَ الأرض جانبي، نظرت إلى السماء الصافية، ابتسمتُ فابتسم.

كان يشبهني غير أنه آخر غير أنا، جُست بعيني في المكان، كنا لوحدنا. بدأ الكلام على حين غرة أحسست بألفة تجاهه، كان انعكاسا لي، كان فيه شيء مني، تسامرنا تحدثنا عن كل ما هو موجود وغير موجود، شعرت بزوال قرف، بزوال أنقاض تراكمت على مدى سنين حتى ظننتها جزءا من أناي، أحسستُني خفيفة ذات وزن مهمل أمام كل الموجودات. رغبت في أبدية لحظة زائلة حتما.
أفقت حين ناداني باسمي، كان له وقع آخر على مسمعي وكأنني لا أنادي إلا ذاتي، استدرت نحوه وعيناي ترجوانه بالبقاء قربي، “لن أذهب لأي مكان” قال، فلست أنا إلا جزء منك.

كنت أدرك ذلك فقد كان يشبهني إلى حد كبير، كان شعره قصيرا مجعدا طليقا تداعبه الرياح، كان يحمل في مقلتيه تيه وجود يثقل كاهله، كان مكبلا.
حتمية الخراب دفعتني إلى التسليم، فالأمر شبيه بالبناء على الرمل. تبدد أمامي -طيفي- تلاشت اللحظات التي ظننتها أقرب إلى الأبدية منها إلى الخلود. أغمضت عيناي وأخذت أتلو تهويدة الحياة، صدى التهويدة يتقاطع مع خرس الليل، صمت.

مقالات مرتبطة

ليل أخرس لا يتكسر إلا على صوت أنفاسي، أخذت أمشي بحذر وتردد فوق العشب المندَّى حدقت بتوق شديد إلى الأرض ولم ألحظ النهر إلا عندما توقفت عنده، يلمع سوادا تحت ضوء القمر. مددت يدي باردا كان، أنعشني فانغمست فيه كلي أخذتْ أنفاسي تتصاعد لتتحول إلى تنهيدات، كنت أتطهر، حية كنت خفيفة بعيدة عن مرأى ذاتي، عن مرأى الآخر. كنت جزءا من نهر يجري يجرفني إلى هوَّة سحيقة.

ظللت على هكذا حال حتى بدأت الظلمة تتكسر على الخيوط الأولى للنهار، خطوت خارج النهر وأنا أضع قدمي برويّة على العشب وكأنني كنت أخشى أن يتكسر تحتهما، لففتُني في شالي وأخذت أشق طريقي من حيث أتيت، سأعود لأندمج في صورة المجتمع المسلم بها حيث يتحرك الشخص وفق خطوات محدودة في نطاق مهما وسع يظل ضيقا، لم أكن حانقة حقا بل كنت أقرب إلى الاستسلام لهذا النظام، فأنا لا أحد لا أحد حقا، حتى وعيي يخونني أحيانا فلا أعي وجودي، حيث أذوب في أحضان وجود هش دون أبعاد، أنا أقرب إلى جثة منه إلى شيء حي، فمرهق أن تتحول إلى إنسان منهك لا يتفتت إلا على سؤال لم…؟

خوار قطيع الأبقار قطع سيل أفكاري، ابتسمت وأخذت أتأمل عيونها الواسعة، التي لا تعكس إلا النقاوة والبراءة، رُحت أركض باتجاهها وأنا أضحك ملء فمي “هااي يا أبقار انتظريني” كنت أصرخ هكذا وكأنها ستفهمني، وحين اقتربت منها وقفت على مسافة ليست ببعيدة أتأملها. ليس سيئا أن تكون حيوانا، أن تأكل أن تتناسل وأن تنتهي حياتك في المسلخ أو عند الشيخوخة، اقترب مني عجل صغير بني اللون ابتسمت له وأخذت أداعبه.

أكملت طريقي فوق العشب المندّى، تحت أشعة الشمس أخذت تخترق خلايا جسدي بحنو. وجدت الباب مواربا، دلفت، ابتسمت لهم، ثم شققت طريقي إلى المطبخ لأحضّر فنجان قهوة، أضع الكنكة على الموقد، أنتظر غليان الماء وأنا أفكر في اللاشيء، أرى تكوّن الفقاعات فأضيف البن، تداعب الرائحة القهوة أعماقي فأشعر بدفء، أشعر بأنها تحتضنني تربّت عليّ في حنو فأشعر باستقرار ثم أفكر ما نحن دون رغبة؟ دون حاجة؟ دون تعلّق بشيء يحقق نوعا من التوازن في ذواتنا.