ستعود سيرتها الأولى!

“الأفكار ملقاة على قارعة الطريق” جملة قرأتها مرارا، وأعجبت بوقعها على أذني وكيف أنها تحول عقلك بمجرد أن تسمعها إلى قارعة طريق مكتظة بالأفكار. كنت دائما أعتقد أنها جملة مجازية يجب على المرء أن يستوعب ما تضمره من معنى، إلى أن فوجئت بخلاف ما اعتقدت. لا بد أنكم تتساءلون عما أقصده، ومن بينكم من يقول إن هذا الذي تقوله ضرب من الجنون! لكنني أرجوكم أن تنصتوا بتمعن وتركيز لكل ما سأشارككم إياه.

حتى لا يجن أحدكم إذا حدث معه نفس الذي حدث معي مساء اليوم…كنت معية صديقة نسير في صمت تام، لم ننطق بكلمة منذ أن خرجنا من المقهى الذي أمضينا به 5 ساعات، استنفذنا فيها كل الكلام الذي ضجت به دواخلنا طوال أسبوع كامل. الصمت كلمة نسبية ككل شيء في هذا الكون، لأنني إذا أردت أن أتحرى الدقة فسأقول أن فاهينا لم يصدرا أي صوت طوال الطريق، أما عقلي فكان مشوشا وكذلك عقلها من دون أدنى شك.

من بين كل ما فكرت فيه أذكر فكرة واحدة بشكل واضح، لقد تساءلت عن الفائدة من الكلام والصمت، أيهما أنفع لنا؟ هل حين أصمت في منتصف النقاش أكون قد خسرت شيئا؟ ولماذا قد أصمت ما دامت الأفكار في رأسي تناقِش؟ هل هو الخوف؟ الخوف من ماذا إذا؟ من الإخفاق في اختيار الكلمات بشكل دقيق؟ ولماذا سأحتاج إلى اختيار الكلمات؟ لماذا لا أطرح الفكرة بصيغة التفكير؟ لماذا أضطر أن أوظف لغتين، لغة التفكير ولغة الكلام؟ وإذا لم يكن خوفا فما الذي قد يجعل الإنسان يصمت؟

إعصار من الأفكار والأسئلة والأجوبة التي لا تنفك أن تفرخ أسئلة أخرى، رغم كل هذا، كنت أحس أن ملامحي توحي للناس بأنني شخص هادئ ومتزن ولا يواجه أية مشاكل، وكعادتي حين أسير على قارعة الطريق كنت أغرس عيناي في الأرض ولا أرفعهما إلا نادرا. أذكر أن صديقا قال لي مستهزئا ذات يوم: “ارفع رأسك يا صديقي ما عادت النقود تسقط من أصحابها لقد تعلموا كيف يرقعون جيوب سراويلهم”، ضحكت يومها ملء فمي لكن رأسي ظل مطأطأ.

لقد كان صديقي هذا محقا، الناس لم تعد تسقط منهم النقود، أو ربما الأطفال وحدهم من لهم القدرة على إيجاد نقود على قارعة الطريق. اكتشفت اليوم أن لي قدرة على تطوير موهبة إيجاد النقود هذه لإيجاد أشياء أخرى. لقد وجدت “فكرة”
كنت أسير برفقة صديقتي وأفكر في كل ما حدثتكم عنه سابقا، حين أحسست بشيء ما كالوتد تماما يشد قدمي إلى الأرض ويكاد يجردني من سروالي، استغربت للأمر فأمعنت النظر ما بين قدمي فوجدت شيئا على شكل تفاحة له يد واحدة وفم وكثير من الآذان…تملكني مزيج من الخوف والدهشة حين رأيت فمه يتحرك وسمعته يقول: أنا اسمي فكرة سقطت من رأس رجل عجوز أصابه الزهايمر تماما مثلما سقطت التفاحة من الشجرة. اختلقت عذرا وجلست على الرصيف أعيد ربط حذائي، ثم سألتها: ماذا تريدين؟ فقالت: خذني ولا تخف أنا “فكرة” وفية كالموت لا مفر مني إلّا إليّ،  أرعبني كلامها وأحسست أنه تهديد صريح، فحملتها كانت أخف من ريشة وأحرّ من جمرة.

وقفتُ كانت “الفكرة/الجمرة” في رأسي تحرق كل شيء وكان كل شيء يخرج من فمي دخانا، اخْتَنقْتُ وخَنَقَتْ صديقتي دموعُها، نظرت إليها وقلت: ألقها ولا تخافي ستعود سيرتها الأولى ملقاة على قارعة الطريق. وألقت ما فيها وتخلت، حينها كنا في مفترق طرق فسرنا كل إلى حال سبيله.

1xbet casino siteleri bahis siteleri