طبيب هائم في عالميه! منصف محمد أمين

أول ما يتعلمه الطبيب في حياته، أن الصحة نعمة عظيمة تستحق أن نحمد الله عليها! عجيب ذلك الشعور الذي انتابني لأول مرة ذلك اليوم وأنا في طريقي إلى المنزل على متن “طرامواي” عادة، أكره جميع وسائل التنقل بالبيضاء، نظرا لاكتظاظها بالناس وتخلفها المتواصل عن المواعيد. لكن، لا بأس.

عند دخولي لإحدى القاطرات، أول ما وقعت عيني عليه هو طفل صغير في عربته، جذب انتباهي بضحكته البريئة وسط الحشود. ضحكة طفولية كانت كفيلة لتجعلني أنزع السماعات من أذني وأوجه كل تركيزي نحوه بعدما كنت تقريبا شبه منعزل عن العالم كعادتي… أفكر! بجانبه تقف امرأة لطيفة تلاعبه، أما أمه فتراقبه عن كثب مبتسمة، ومجموعة من الناس حوله تلتفت بين الفينة والأخرى لترى البطل الصغير وهو يطرب أسماع الراكبين بضحكته اللطيف.

وسط هذا السيناريو السعيد كنت أنا المتفرج الوحيد في الصورة، فبينما كان الآخرون منشغلين بعيش تلك اللحظة من الزمن، كنت واقفا أتأمل وجوههم وألاحظ تحركاتهم ببطء وأستمتع بابتسامتهم…فجأة، يقف “الطرامواي” بإحدى المحطات، يدخل فوج آخر من الناس مختلفة أجناسهم وأعمارهم. أتتبع بحرص شديد ملامح وجوههم وأراقبهم بعمق كيف يتحركون، يجلسون ويتحاورون…!

أخرج من ذلك العالم الكبير لأدخل قوقعة التفكير مرة أخرى؛ جملة من الأسئلة الغريبة تخطر ببالي دفعة واحدة: لماذا يثير انتباهي دخول هذا الكم من الناس، بعدما كنت لا أعير لوجودهم أي اهتمام؟ لماذا فجأة يبدون في غاية الجمال والسعادة؟ وكيف لأول مرة أكتشف ملامح الإنسان الجميلة المرسومة بكل دقة وإتقان والتي لم أنتبه لها من قبل أبدا؟ قطعا، لم أتلقَّ أي خبر سار يسعدني ويجعلني أرى العالم بهذه النظرة المتفردة، ولم أتحدث أيضا مع أي من أصدقائي المقربين حتى يكون يومي جميلا لهذه الدرجة؟

خرجت من “الطرامواي” قبل محطتين من مكان الوصول لأكمل الطريق مشيا على الأقدام، مفترضا أن المشي قد يساعد عقلي الصغير على الإجابة عن كل تلك الأسئلة التي تتراقص بذهني… لكن الغريب في الأمر أن حتى المشي كان له تأثير جميل وأشعرني بسعادة تجندت لها كل حواسي. شيئا فشيئا سرعان ما بدأت أكتشف سبب هذا الانتشاء الزائد والسعادة المؤقتة التي كانت تداعب قلبي للحظات…لتندثر كالبرق وتختفي بعدما تذكرت أيام مداومتي بالمستشفى وساعات الحراسة الليلية الطويلة والشاقة… وكيف للخمسة الأسابيع الأولى من حياتي في المستشفى أن تكون كافية لتغير نظرتي للعالم، رغم أنني لم أوفق في أن أكون حاضرا في جميع لحظاتها فكان الجواب عن كل أسئلتي بديهيا وبسيطا جدا.

 

كل هذه المدة التي قضيتها وأنا أعتني بالمرضى في المستشفى؛ تحديدا بمصلحة الحروق والجراحة التقويمية، كنت أرى جميع أنواع الناس في أسوء وأضعف حالاتهم، حيث الألم شعور لا يعيشه المريض فقط بل حتى عائلته والقريبين منه؛ يحسون به ويشعرون به وكأنه ألمهم… حتما، يوم واحد هناك بين أسرة المرضى كاف ليعلم أي شخص درسا يرافقه مدى الحياة؛ هو أن يحمد الله كل دقيقة، أن يحمده لرعايته له وحفظه إياه من جميع ما قد يؤذيه… من نار تأكل جسمه، أو مادة كيماوية تحرق جلده، من صعقة كهربائية تحرق أمعاءه أو وقود يشتعل في وجهه…

كانت هذه بضع حالات لا تظهر إلا في الأفلام، لكنني عشتها ورأيتها كل يوم…حالات أثرت في حياتي وغيرت الكثير في شخصيتي وفي نظرتي تجاه العالم. بسب هذه العودة السريعة لواقعي كطبيب خارجي، انقلب فرح يومي حزنا على نفسي لا على الناس، خوفا من أن أكون من المقصرين الذين لا يذكرون نعم الله عليهم ولا يشكرونه! فأدعو الله أن نكون من الشاكرين الحامدين ونسأله أن يحفظنا وإياكم من كل شر وسوء.

1xbet casino siteleri bahis siteleri