أو كلما اشتهيت اشتريت!

قديما جدا، حيث كانت الحضارة الإنسانية تكافح لاستشراف النور، كان أسلافنا يعيشون يومهم بما يكفي لسد حاجتهم الأساسية؛ بعض الطعام، ملابس محدودة، فراش لا يمت للرفاهية بصلة وبعض الأواني الضرورية. كان كل فرد يعمل ليومه ويستفيد من القيمة الاستعمالية للأشياء. تعني هذه القيمة الهدف الأساسي الذي نقتني من أجله شيئا ما؛ كأن نشتري الملابس للوقاية من البرد أو الكراسي للجلوس عليها وغيرها.

مع مرور الوقت، تعرفت المجتمعات على مبدأ آخر احتل مكان مبدأ القيمة الاستعمالية: إنه مبدأ القيمة التبادلية؛ أي أن قيمة الأشياء أصبحت تتحدد بما يمكن أن تجلبه من منفعة إضافية في المقابل سواء على المستوى المادي أو المعنوي، وبهذا أصبحت فلسفة الشراء من أجل الحاجة فلسفة متآكلة أكل الدهر عليها وشرب. بدأ الناس يتعرفون على مبدأ القيمة التبادلية عندما تمكنوا من التوفير. ففي سنوات الخير والمطر، كانت الأسر توفر المحصولات الزراعية وتنمي المواشي قصد مبادلتها بمنتوجات الأسر الأخرى، وهذا ما شكل بداية للمعاملات التجارية قديما، والتي اتضح -فيما بعد- أنها وسيلة جيدة لتحقيق الثراء.

بعد ذلك بسنوات عديدة، جاءت الثورة الصناعية حيث غيرت نمط حياة المجتمعات كليا، لم تعد هذه الأخيرة تفكر في الاستهلاك الشخصي فقط للأساسيات التي يحتاجها الفرد، بل أصبح التفكير منصبا على صناعة المزيد مما يمكن أن يحتاجه المجتمع ككل وربما المجتمعات الأخرى أيضا، فالمصانع تعلم عن يقين نسبة الأرباح التي ستجنيها كلما توسعت قاعدة أسواقها.

بالعودة إلى أيام الفينيقيين والمصريين واليونانيين وشعوب أخرى مارست التجارة قبل عهد الثورة الصناعية، كانت المنتوجات محدودة في الأسواق وحصرا على سوق دون غيره، لذلك كان التجار يرتحلون آلاف الكيلومترات حاملين أنواعا مختلفة من البضائع لعرضها في أسواق أخرى. لكن بعدها، ولد الفكر الاستهلاكي، وتغير المجتمع ليتمكن من مواكبة كل ما يتم طرحه في السوق، وأصبحت كل منتوجات العالم معروضة في كل الأسواق. ولعلنا الآن نعيش أفضل تجسيد لمصطلح المجتمع الاستهلاكي، بكثرة المنتوجات المعروضة وسهولة اقتنائها.

قد يكون مجتمع السوق الذي ظهر قديما مختلفا عما نعيشه الآن، إلا أن مبدأه الأساسي هو نفسه لم يتغير. يقدم مجتمع السوق هذا يوميا عددا هائلا من السلع المتجددة، بحيث يصنع ثراء فاحشا وفقرا مدقعا في نفس الوقت.. تزداد أرباح المتاجر والأسواق وتزداد ديون الأفراد بالمقابل، وفوق كل هذا وذاك يغير مجتمع السوق أسلوب حياة الناس، إذ أصبح -بمساعدة وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة- يصنع الرغبات والسلوكيات ويزرع الحاجة لشراء الشيء في نفسية الإنسان دون إدراك منه.

لنفهم الأمر أكثر، فلنأخذ مثال المراكز التجارية.. هل تظن أنهم يكثرون الزينة والألوان والأضواء البراقة للعرض فقط؟ تلك الموسيقى التي تسمعها ويكون اختيارها منسقا وجميلا، هل هي للتسلية لا أكثر؟ بل حتى توزيع المنتوجات وطريقة عرضها وغيرها من التفاصيل التي قد لا نلقي لها بالا. كل شيء مصمم بدقة لتخدير عقولنا وتوجيهنا بالسرعة المثلى عبر الممرات ومغادرة المكان محملين بأكياس ثقيلة لم نكن ننوي حملها أساسا قبل دخولنا. إنها استراتيجية محكمة لضمان استمرارية الأسواق، إنه علم قائم بحد ذاته، تتنافس الشركات الكبرى للحصول على ممارسيه لما لهم من دور كبير في المساعدة على السيطرة على السوق وزيادة الأرباح.

تستهدف هذه الاستراتيجية شعورا دفينا لدى الإنسان وتستغله دون وعي منه لتحقق مآربها؛ إنه شعور الفخر الذي أصبح يشكل القيمة التبادلية عند أغلب الأفراد؛ إن كانت الأسواق تحصل على الأرباح كقيمة تبادلية فإن الأفراد يحصلون على الفخر والزهو كقيمة تبادلية. أصبح الاستهلاك الزائد وحمى التسوق وسيلة للتفاخر بين الناس رغم ما قد تسببه من مشاكل. قد يبدو الأمر غريبا لكنها الحقيقة. فالبعض يصل إلى مرحلة الاستدانة لشراء الكماليات ويكونون على استعداد تام لدفع مبالغ طائلة مقابلة سخافة ما، هذا ما يسببه شعور الفخر فينا، يتغذى على آراء الناس وتشجيعات الأسواق لنجد أنفسنا في سباق مستعر راكضين خلف العلامات التجارية مجسدين بذلك مهزلة مضحكة للاستغلال المادي والنفسي.

يحفزنا الفخر للتباهي بالسلع المُقتناة، في حين أننا إذا أزلنا الافتتان عنها وعن ثمنها المهول فسندرك أننا أغبياء من نوع ما، فقد تم خداعنا واستغلالنا لأننا أردنا التباهي والتفاخر فقط. أنا لا أدعو إلى الزهد في مقالي هذا، وإنما أدعو إلى اجتناب السلوك الاستهلاكي العشوائي القائم على الشراء من أجل الشراء. من حقنا جميعا التمتع بما لذ وطاب من المنتوجات المعروضة ولكن علينا دائما استحضار الهدف والغاية من التسوق، هل هي القيمة الاستعمالية أم القيمة التبادلية. وصدق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “أو كلما اشتهيت اشتريت!”