دعوة لإقامة عزاء

إن ما يزعجني ليس الكم الهائل من التعاسة التي تتزاحم لتجد مكانا تستطيع التسرب منه إلى أيامنا، لكن ما يزعجني أن هذا التعب الهائل يتراكم يوما بعد يوم، بدون أن يتجاوزنا أو يغادر بدون رجعة. لهذا أعددت جلسة لدراسة الأمر ولكشف السر، برئاسة جمع من ذلك الكم الهائل من التعاسة، ويحضرها بعض التعيسين المحملين بسنين طويلة من التعب والإرهاق والرافضين كل الرفض أن يتم الإدلاء بأسمائهم خوفا من أن ينساب جمع جديد من التعاسة إليهم بعد سماع أقوالهم.
إن كنت تقرأ نفسك في هذه الكلمات أسفله، أحرق الرسالة بسرعة أو أرسلها لعشرة أشخاص لكي لا تصيبك التعاسة، فيا تعيسا يقرأ هنا، بعد جلسة دامت لمدة طويلة، خرج الجمع من المتعبين أعلاه بما يلي: تكمن أعظم أخطائنا في أننا لا نقيم عزاء لائقا بما يحصل، فلا نمكث بعيدا لوحدنا، وهذا ممكن الخلل؛ فعدم تواجد مكان حيث يمكننا الاختباء في السرير ليل نهار، ويمكننا السهر طوعا مع الأرق ليلا، والنوم حينما يستيقظ بعدها كل العالم، بدون أن نحتاج لنختلق عذرا لأحد، فقط لا أحد. مكان نختبئ فيه وحدنا لنصنع عزاء لائقاً بمصيبتنا، هذا هو الخلل.
إن عدم تواجد مكان للنحيب، مكان يمكن فيه طلب الطعام بدون تناوله، وتفضيل النوم بدون أن ننام، مكان نبكي فيه بصوت وبدون حاجة لخنق الأنفاس وبدون خوف من أن يسمعنا أحد، مكان لنا وحدنا يمكننا فيه الصوم عن الكلام. مكان يمكننا أن نرتدي فيه نفس الملابس لأسبوع، مكان يمكننا فيه النوم على الأرض الباردة بدلا من السرير، مكان حيث لا صوت فيه سوى صوت الأفكار التي تجول في داخلنا.
إن المكان الذي تتم إقامة العزاء فيه هو أهم القرارات التي تتسبب في مكوث ذلك التعب الهائل فوق أكتافنا، فننحني اليوم تلو الآخر كما لو أننا نغدو عجائز قبل الوقت، بينما التعاسة تكبر يوما بعد يوم وهي تتغذى منا وتثقل كواهلنا ونزيد في الانحناء إلى الأمام، وتصير رؤية أقادمنا ونحن نمشي في الطريق أقرب يوما بعد يوم. لهذا يبقى المكان أعظم الأشياء التي لا نملكها نحن من نتواجد في هذه الجلسة.
بعد المكان يأتي الوقت؛ لا نعطي لأنفسنا وقتا كافيا لإقامة عزاء، نزاحم أيام العزاء بأيامنا الروتينية، ننهض من أفرشتنا بخيباتنا، نرتدي ملابس لا تناسب ملابس العزاء ونتجه لنزاحم العالم في وسائل النقل، يصطدم بنا أحد أو نصطدم به فنحتاج للكلام من أجل التأسف أو قبول الأسف، نشعل حاسوبا أو نفتح دفاتر ونضغط أرقاما ونكتب حروفا، ومن الواجب أن تكون صحيحة من دون مراعاة أن العقل حينها يكون غائبا وفي حالة صيانة. هل يستعمل أحدكم هاتفه أو حاسوبه حين يكون في حالة تحديث؟ لا إنه لا يعمل، فنحن أيضا نكون حينها في حالة صيانة وتحديث. لكن، بدلا من ذلك، نعمل ونكتب و يجب أن نتقبل التوبيخ، ويأتي أحد تافه ويسألنا لِمَ لا نضحك، تبا لك يا ذلك الأحد فنحن في عزاء، ففي العزاء ننتحب لا نقهقه. وبدلا من أخذ الوقت الكافي للشفاء، نستيقظ لنعمل، نبتسم لأهالينا وكأن لا جلل هنا، نجالسهم ونأكل بينما نلقي نكاتا وأحاديث ونضحك عليها أيضا، نخبرهم ونؤكد أن الجبل لن يصمد أمامنا، فيصير الوقت المخصص لنا قصيرا ولا يبقى وقت للعزاء، بينما نري للعالم أجمع أننا تجاوزنا المصيبة ومررنا مرور الكرام منها.
هكذا يكون الوقت الكافي للعزاء سببا عظيما لعدم شفائنا أبدا، فكما قال الأعضاء أعلاه، إن مزاحمة أيام العزاء بأيامنا العادية ينتج عنها عدم شفاء الجراح أبدا، فالاختلاط بأيامنا لا يساعد أبدا، والابتسام والصمود والمرور مرور الكرام، والقول بأن الوقت سيشفي، لا يشفي أبدا، والوقت الذي تم التكلم عنه هنا، هو الوقت الكافي للعزاء.
الرحيل آخر النقاط التي وقف عليها جمع البؤساء أعلاه، لا يعني الرحيل هنا دائما ترك كل شيء و البدء من الصفر، الارتحال هنا هو الابتعاد. وإن العلاقة التي تجمع العزاء بالرحيل أو الابتعاد هي الحاجة للبقاء بعيدا عن كل من يعرف مصائبنا ومن يعرف وجوهنا، حتى نستطيع منح أنفسنا الشفاء بعيدا عن كلماتهم، بعيدا عن مواعظهم، أن يكون الجلوس لوحدنا متأملين في الفراغ لا يعني أننا في حالة انهيار بل أننا نُقدِرُ أنفسنا كل التقدير. نختار الهرب والتنفس بعيدا، لكي نقف أمام بائع طعام لوقت طويل دون أن نشتري، أن نقف فجأة في الطريق ونبكي، ونمسح الدمع فجأة ونضحك ونسكت ونكمل المشي وكأن لا شيء قد حدث. أن نستغرب من ملابس شخص نراه لأول مرة، وأن نمر مرور الكرام من شجار دون أن يعنينا إن كان أحد نعرفه فيه.
لهذا، إن الهرب من الوجوه التي تقدم لنا العزاء كل يوم وتسأل في كل لحظة، وتُطِلُ علينا من كل ركن لكي ترى إن سقطنا أو قاومنا، هو الحل. الهرب أو الرحيل بعيدا هو آخر مراحل صنع عزاء صحيح، حيث يمكنك الشفاء وترك المصيبة هناك، بل وربما قد تجد الحل تحت صخرة، أو في وسط موجة، أو ربما في عش طائر لقلاق، المهم الابتعاد عن كل الوجوه وعن محاولاتهم في جعل مصيبتك محورا لجلسات النميمة، الهرب لإقامة عزاء بحثا عن الشفاء.
ختاما، أنا المتكلمة بصفة الجمع، أذكر أو نذكر أن من الواجب الجمع ما بين المراحل الثلاث المذكورة أعلاه للحصول على عزاء صحيح، لعل المصيبة ترضى، والجلل يقتنع، والتعاسة تكتفي، والتعب يخضع ويقبل فينزاح عن الكاهل، بدون أن يبقى جالسا مثقل الأكتاف. فالرحيل، والوقت، و المكان الصحيح يكفيك لتعيش مصيبتك حد الاكتفاء والشفاء، حتى يحين وقت العودة. وهكذا يكون الجمع من المتعبين أعلاه المتكتمين على أسمائهم والمتكلمين بضمائر لا تعبر عنهم حفاظا على سريتهم، مع الجمع من المصائب التي وقعت على وثائق عن عدم الكشف عن المشاركين في هذا الجمع، قد ساهموا جميعا في الكشف عن سر العزاء الصحيح، وشاكرين لهم مساهمتهم معنا أعواما من المصائب والأثقال.
من دون أن ننسى، نرجو كل من وجد نفسه في أحد الكلمات أعلاه أن يحرق هذه الرسالة في أقرب وقت، أو أن يرسلها لعشرة أشخاص حتى لا تصيبه أحد المصائب. ونحن نؤكد بأننا لا نتحمل أي جلل قد يحصل لأحد بعد قراءته لدعوة إقامة عزاء صحيح. وشكرا.
1xbet casino siteleri bahis siteleri