في “الكواركات” و “البوزونات”… و جزيئات أخرى!
العلوم تتحدّى، وتصنع، وتفسّر، والمنطق يعلو ولا يعلى عليه.
بدأت الحكاية بمحرقة الكنيسة على يد السّادة الجدد، وأعلنها صاحبهم مدوّية: “إنّني لا أصدّق ما لا ترى عيني وما لا تسمع أذناي”. وكان لابدّ للسّادة الجدد من دين جديد يملأ الأرض ويشبع فضول الفطرة التوّاقة إلى معرفة الحقيقة. وجاء “ماكس بلانك”، وادّعى بأنّ الطّاقة ليست متّصلة وبأنّها عبارة عن “كمّات” متتالية، ثمّ صرخ صاحبه من الجانب الآخر الأطلسيّ بأنّ المادّة والطّاقة وجهان لعملة واحدة وبأنّ سرعة الضّوء مطلقة ثابتة صمديّة.
أقيم صرح العلوم على نظريّة الكمّ والنّظريّة النسبيّة، وانبرى الموحّدون الجدد للاشتغال على نظريّة لكلّ شيء، نظريّة تفسّر الكون، والطّاقة، والمادّة، والمبدأ، والمنتهى والمعاد، بل وحتّى خلق الإنسان ولماذا خلق وفي أيّ شيء خلق. نظريّة توحّد الطاقات الأربعة من تلاحميّة وانشطاريّة وكهرمغناطسيّة وجاذبيّة. نظريّة إله يوحّدونه في المخابر وتحت ضوء المناظر السّماويّة. وأقيم صرح الدّين الجديد على الشكّ.
صرح عظيم يرتقي معارج السّماء فيطأ القمر، ويرسل المسابر إلى الكواكب ويبحث عن الماء في المرّيخ. ثمّ تحدث هزّة وينطق ذو المروءة منهم قائلا: “وماذا لو كان ما نبحث عنه وهم؟”، ولكنّهم يسكتونه ويقولون بأنّ صاحب الفضل الأوّل عليهم قد خرف وذهبت بعقله السّنون.
تأبى مروءة “ديراك” الصّمت عن حقّ ما وجد فيصيح: “ولكنّ جزيء المادّة يتواجد في نفس الآن في حالتين متناقضتين، فكيف تفسّرون؟ّ”، ويجيبه زميله “شرودينغر”: “قد يوجد القطّ ميّتا وحيّا في آن الوقت”، ويضحك الجمع وينصرفون. ثمّ يصيح “هاينزبرغ”: “ولكنّني لا أستطيع حساب السّرعة والموضع بدقّة عند هذه الظّروف الخارقة”، فيجيبه المؤمن المعتقد، أصوليّ العلوم: “أعد حساباتك فالرياضيات لا تخطئ”، وينفضّ الجمع وهم على عزمهم ماضون.
وبعد لحظات يعلنها أحدهم: “إنّ جزيئات الفوتون تتناغم بطريقة خياليّة؛ حتّى أنّك إذا أطلقت جزيئتين من صنفين مختلفين فهما يتواصلان مع بعضهما البعض مع بعد المسافة وغياب الإدراك.”، وعندها تتعالى الأصوات ويكثر الجدال ويتدخّل المتأخّرون فيقولون: “سوف نأتي بما لم يأت به الأوّلون”.
ويقيم المتأخّرون مسرّعات الجزيئات، ويعيدون قلب كلّ المعادلات. وتمتلئ الجامعات من “هارفارد” و “إم.أي.تي” و “بركلي” بالسبّورات، ولا تكفي كلّ ألواح العالم لحلّ المعادلات. سبعة وثلاثون من الجزيئات، إلكترونات وكواركات ونوترينو وبوزونات، وكلّ جزيء ينقض ما أقامه سابقه.
تستشكل الرياضيّات، وتتعقّد الخواريزميات، ولكنّ المتأخّرين تعلّموا من إخوانهم أرباب البنوك ما لم يجرؤ على فعله أسلافهم، فإذا استشكل حلّ معادلة قيل ينقصها ثقب أسود، وإذا تعقّدت أخرى قيل لعلّنا نعيش في عشرة أبعاد، وإذا كثر الاعتراض فهذه نظريّة الأوتار الفائقة وأخرى من شكلها نظريّة الحلقات، ويتعالى صرح الإله الجديد ولكن من دون دعامات. وينبري أهل الأدب والفنّ ليلحقوا بسدنة المعبد الجديد، وينطقها الأخوان “واكوفسكي” آية أولى: “نحن لا نعلم من الحقيقة سوى ما وصلنا من معلومات عنها”. ويسرق “بروميثيوس” نار آلهة “الأولمب”.
لسنا سوى مسلسل متواتر الحلقات من العدم والوجود، ننتقل بين الحين والحين حيث يفقد الحين معناه، ونتناثر كذرّات الهواء المفتوحة على أبواب الرّيح تحملها صوب كلّ الوجهات، مثلنا في ذلك مثل القوارير لحظة تحطّمها على الأرض جزيئاتها منفتحة على كلّ الاحتمالات، وبين الانكسار والانشعاب لا زمان و لا مكان.
يسأل الغريق عن لحظة غرقه فيجيبك بأنّها كانت كأنّها الدّهر، سرمديّة لا مبتدأ ولا منتهى، ويستفسر من توقّف نبض قلبه لحظة ثمّ عاد ليرتجف من جديد عن المكان الّذي مرّ إليه فيعجز عن وصفه، لا بل هناك ليس بموصوف، لا بل ليس هناك، ثمّ يصيح: “إليك عنّي فلقد أحياني الله من جديد وكفى”. وتتوالى التّجارب ولا أحد يعلم كيف هو تعاقب الوجود والعدم، وهل يتراكب الانكسار مع الانشعاب؟
لكنّها العناية الإلهيّة، قبضة فوقيّة تنتشلنا عند كلّ عدم لتوجدنا من جديد إمّا في نفس الطّور أو في طور آخر. لمسة نورانيّة على أصغر جزء من التّكوين إلى أعظمه ينبض لها القلب الهامد حيَا من جديد. ويميل المذنّب المتّجه صوب الأرض من آلاف السّنوات الضّوئيّة عن مساره بيوطامتر، فنتلافى الاصطدام المحتوم بعد آلاف السّنين. وتندمج جزيئة الحمض النّووي في مكانها المناسب حذو جارتها، فتشفى الطّفرة ويختفي السّرطان الّذي كان ليفتك بصاحبه بعد عشرات السّنين.
قيّوميّة لا قوام لغيرها، بدونها نفنى لسنة مستحيلة استحالة النّوم. رحمة متنزّلة بقدر دعاء هو من القدر. كلمات نورانيّة ليست مجرّد لفظ يلقى على عواهنه، فتواطأ اللّمسة اللّمسة والنّور النّور، لينتقل المضطرّ إذا دعاه من عدم إلى وجود، ومن كرب إلى فرج، ومن شكّ إلى يقين.