في الحديث عن أزمة الوعي الإسلامي
إذا ما أردنا تقريب تعريف الوهم إلى فهم القارئ وإدراكه، فإنه يشبه مرآة معوجة تعكس الصورة بطريقة غير سليمة، قد تشوش على وضوح الصورة ودقة الزوايا والحواف، فيعتقد عقل الإنسان الناظر إليها دون تمعن وتدقيق على أنها الصورة الأصلية الخالية من الشوائب.
إذا؛ وانطلاقا من هذا التجسيد أمكنني القول بأن الوهم هو تلك الحالة التي تسبب اضطرابا للعقل في قدرته على التمييز بين ما هو حقيقي ومنطقي، وبين ما هو متخيل وزائف، حيث تكون أفكارنا صورا عن ذواتنا بشكل معتل وغير صحيح في معظمها، فكان الخطأ الشائع في دفاع الإنسان بشكل مستميت عن شيء قد آمن به، سواء بالتسليم أو بسبب تجربة روحانية أحدثت سلاما بداخله أو برأي يجد ضالته فيه، وقد يجبر غيره على اعتناق ما آمن به وهو يحاول إثبات صحته بالرغم من أنه قد تكون الأدلة غير كافية بالنسبة لغيره أو ربما تظهر أخرى تبطل معتقده وتهزه، لكنه يرفض الاستماع ويأبى تقبل الاختلاف فيما يراه غيره أو يستخف بأفكارهم متحيزا ضدها بعنف ثائر متعصب.
قد توافق الأساطير التشبيه السابق عن المرآة غير المستوية، حيث تتشابك القصص غالبا فيما بينها سواء بأحلام يفسرها الكهنة، أو بظواهر معينة تركت أثرا غير سوي منذ عهد المجتمعات البشرية الأولى والتي اعتمدت على العرافين والمفسرين في خلق منظومة القربان والهدايا وقواعد العقاب والثواب وغير ذلك، تحث الإنسان على اتباع الإرادة واتخاذ حكم وجداني للاعتناق متأثرا بالإثنية وأنظمة الحكم الوضعية، وقد يعزز منسوب الحقيقة تلك فيحولها إلى تجربة تنعكس خصائصها وفق شروطه وتتوافق مع رغباته وأهوائه، فيعلن بعد ذلك عن “إيمانه اليقيني” بها كمن اعتقد أنه امتلك أجمل جارية في سوق نخاسة لا تضاهي جمالها جارية أخرى، بعد أن يقتادها مفاخرا أمام الخصوم والأقران!
غير أن المشكلة العميقة تتجلى في تركيبة الوعي لدى المجتمعات المتدينة، حيث تختلط أبعاد الفهم والتأويل على أذهان ونفوس العوام والخواص، تشكل بذلك حالة نفسية ممزوجة بمضامين نصوص دينية تزيد من عمق التضارب الفكري والاستقرار النفسي، تنمو في ظروف معينة؛ حيث تنعكس مضامين العقيدة لدى معتنقيها الصادقين في تدينهم فتحيد بهم نحو طرق أكثر خطورة تحفها الآلام والأحزان، ويدفعهم وهم الحقيقة الواكز على قلوبهم إلى التشبث بحقائقهم يدفعون أرواحهم بإخلاص إلى الموت فداءً وتضحيةً. وهناك أمثلة قد سطر فيها الكثير من هؤلاء أسمائهم في تاريخ مصبوغ بالدم والهدم، كخروج السومريين عن اليهود وانشقاق حرب المائة عام بين البروتستانت والكاثوليك، وفتنة المسلمين الكبرى في عهد علي ومعاوية، حيث عاث الخوارج اغتيالا وتقتيلا، هؤلاء الذين طابقت أوصافهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت سيماهم التحليق وعباداتهم التي يحقر فيها المرء أمامهم عباداته كالصلاة والصيام وسائر الأعمال، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ويَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
فضعف التمحيص العقلي الموضوعي المقارن أمام العقل الناقل المتشرب للنصوص دون تحليلها وتقليب معانيها، يقع الخلط والارتباك ويمنح الإنسان الصادق في تدينه بيئة تثير شخصيته المعتنقة لكل أساليب الإغراء والتعصب، الخالية من الوعي المستقل المدرك للتجارب والنتائج، في محاولة منه لتأسيس مبدأ التفرد والتمييز الإصلاحي الحصري للوعي الجمعي عند عامة المسلمين، والذي يعود لأسباب مركبة وظروف معقدة، مثلما بيَّن ذلك ابن خلدون في قوله : ” اعلَم أنَّ العلوم التي يَخوض فيها البشَر ويتداولونها في الأمصار تحصيلًا وتعليمًا هي على صِنفَين: صنفٌ طبيعي للإنسان، يهتدي إليه بفِكره، وصنف نَقْلي يأخُذُه عمَّن وَضَعَه. والأول هي العلوم الحِكْمية الفلسفية، وهي التي يُمكن أن يقِف عليها الإنسان بطبيعةِ فكره، ويهتدي بمَداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، وأنحاء براهينها، ووجوه تعليمها، حتى يَقِفَه نَظَرُه (أي يُطْلِعه) ويَحُثَّه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مُستندة إلى الخبَر عن الواضع الشَّرعي، ولا مجال فيها للعقل، إلَّا في إلحاقِ الفروع من مسائلها بالأصول، بوجهٍ قياسي، إلَّا أنَّ هذا القياس يتفرَّع عن الخبَر بثبوتِ الحُكم في الأصل. وهو نقليٌّ، فَرَجَعَ هذا القياسُ إلى النقلِ لتفرُّعِه عنه”
وإنما يبعث هذا الاعتناق الأعمى والفهم المرتبك في عقول الناظرين بتعجب إلى صاحب تلك الأوصاف النبوية وإن كان خارجيا متمردا ومتعصبا رغبة إلى الإقرار بأنه إنسان يتسم بإيمانه المخلص وصلاحه التقي وورعه الصادق، وقد وصف الإمام الكبير الحسن البصري بقول بليغ نصه في تشخيص هذه الحالة الذهنية:
” العَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّالِكِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، والعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا العِلْمَ لا تَضُرُّوا بِالعِبَادَةِ واطْلُبُوا العِبَادَةَ طَلَباً لا تَضُرُّوا بِالعِلْمِ فَإِنَّ قَوْمَاً طَلَبُوا العِبَادَةَ، وَتَرَكُوا العِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ طَلَبُوا العِلْمَ لَمْ يَدُلَّهَمْ عَلَى مَا فَعَلُوا.”
ولعل قصة ابن ملجم الخارجي الذي قتل علي ابن أبي طالب في صلاته غدرا تعتبر نموذجا لدراسة أولئك الذين نهجوا دروبا شائكة من خليط الارتباك والمعاني المتضاربة والشدة في تشرب الحقائق غير المستوية وهي مبنية على جمرة الثورات والفتن وسيوف الدم .. فابن ملجم رأى في سيادة القتل إنهاء لحكم الطغاة كما جاء على لسان القتلة الذين أرادو إنهاء حياة أمراء وخلفاء من الصحابة: “لو أننا شرينا أنفسنا لله فأتينا أئمة الضلالة على غرة فقتلناهم فأرحنا العباد منهم، وثأرنا لإخواننا الشهداء”، وقد شهد الكثير من الصحابة صلاحه وعلمه واجتهاده في فتح مصر وطلب العلم عند معاذ ابن جبل وابن عباس قبل أن ينضم إلى جيوش الخوارج التي انحرفت عن مناصرة علي ابن أبي طالب إلى المطالبة برأسه، فأقدم على جريمة قتل الإمام، وقد أنزل الحسن ابن علي حكمه بالقصاص منه، لكنه لم يزدد إلا يقينا وهو مطمئن في واستغفاره وفرحه بالشهادة والأجر والثواب على ما فعل.
حتى شبيب ابن يزيد الخارجي، ذلك الفقيه المجاهد في بدايته حتى رفع لنفسه مكانا للخلافة والثورة فأقدم لتلبية رغبة زوجته غزالة، فذبح حراس مسجد الكوفة بعد أن أغار على المدينة، وهيأ لقدوم غزالة التي نذرت أن تصلي في ذلك المسجد فصلت ركعتين الأولى بالبقرة والثانية بآل عمران، وقامت بعدها تخطب في الخوارج وتشحذ همهم لقتال جيش الحجاج الثقفي وسط سيل من دماء المصلين.
من المطلوب أن ينفض الوعي الاسلامي غبار سباته القديم ويتجه صوب المصالحة مع منطق العصر ومتطلبات الظروف الحالية لحاجيات المجتمعات المتدينة، وهذا لن يتحقق إلا بعمل مراجعات عميقة وشاملة للتراث الإسلامي، بمعظم مفرداته وقضاياه ومؤلفاته، ومن خلال مراجعة الإجماعات المشكوك في أسباب وعوامل تشكلها وصحة انعقادها أو في سلامة حكايتها وشيوعها كما يقول العلامة أحمد الريسوني، وأنه لا يُستثنى من تلك المراجعة إلا ما كان نصا صريحا قطعي الثبوت والأحكام، فـ “الجديد لا يكون إلا بقتل القديم بحثًا ” حسب قول الشيخ أمين الخولي، إذ أن ضرورة “غربلة وفلترة ” التراث والتقاليد ولا يظل منها إلا ما وافقت الصلة بالشريعة ومقدار قوة تلك الصلة وضعفها كما عبر عنها الإمام محمد الغزالي الذي طالب في كتاب “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل” بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي حتى القرن الخامس عشر للهجرة. فالنقد المتجرد من الأعمال البشرية في الإحاطة والتأويل للنصوص يقوم الاعوجاج الحاصل بالتوجيه وتقديم النصح والآراء العقلية المحايدة، بل وإعمال النقد الفلسفي للظواهر والنوازل مما يسهل على المتلقي الفهم العميق لما وراء الأحكام والتشريع، ويسهل معه الفصل بين الشريعة ومكوناتها وسياقات التاريخ ومكوناتها عند مناقشة قضايا التراث، مما يرفع الحرج عن المجتهدين من العقلاء – رغم قلتهم -، ويُجنب الخلط بين التاريخ والنصوص المختلف حولها وبقية نقاط التراث الجدلية حتى لا يتخذ المسلمون المرتبكون من تأويل النصوص الخالي من أدوات التحليل والتمحيص والنقد شرعة ومنهاجا.
فالتسليم للقضايا والآراء التي تأخذ تشكيلا دينيا صرفا دون تساؤل يدفعنا إلى التوصل للحقائق، يجعلنا مترددين في وضع المسلمات على مجهر الفحص والنقد، والبحث في مسببات المشاكل المرتبطة بواقعنا الصعب الناجم عن تلك الخلاصات الوضعية الجاهزة، والتي تحول دون الوصول إلى حقائق الأمر، وهذا التسليم الأعمى يخلق حالة ذهنية للمؤمن الصادق على أنه ابتلاء وامتحان يكون التسليم فيه خلاصا، دون أن يكون لأي منا المساحة في حرية إعمال مبدأ الشك والسؤال عن كل ما يحجب العقل المتجرد عن التفكير في تلك القناعات المعيارية، دون أن ندفع بوعيينا الجمعي إلى القفز والتحرر من أثقال البديهيات والمسلمات إلى النظريات والاجتهادات المواكبة والمتجددة، حتى يتسنى زعما أن نحتفظ بصفاء الطوية وهدوء العقل واطمئنان القلب من الشوائب العقلية المزعجة .
هذا الصفاء المقَنّع، والاطمئنان الوهمي الرافض لكل نقد عقلاني للوعي الإسلامي، جعل كثيرا من المفكرين والعلماء يدفعون ثمن محاولاتهم في تنقيح التراث، فتم إحراق كتب ابن رشد وابن حزم وابن سينا والزمخشري، بل ونوصبوا العداء والكراهية ونُبذ الفلاسفة والمفكرون أيضا وقُتل منهم خلق كثير، والنتيجة كانت عبارة عن “تخلف إنساني حضاري وثقافي حاد” للمجتمعات الإسلامية أخرجها من سياق السيادة على الإنتاج وصناعة الحضارة والتاريخ، بعد أن كانت مزدهرة في عصرها الذهبي، منفتحة على الحضارات الأجنبية وما جاءت به إليها من علوم ولغات وثقافات تلاقحت في بوصلتها المُرحبة بكل جديد تأخذ منه وتحلله وتجتهد في صياغاته داخل منظومتها، حتى ازدهرت علوم الفلسفة والمنطق والهندسة والرياضيات والكيمياء وفنون كثيرة نتيجة تلك التأثيرات التي غادرت تلك البوصلة، حتى فُقد التقدم وساد الانحطاط الذي نعيشه، وعشش التطرف في بيئة مناسبة عرفت الانغلاق ونبذ لاختلاف ورفض كل أشكال النقد والاجتهاد في ظل الوضعية الهشة والمتعصبة ضد الحرية الفكرية والثقافية جملة وتفصيلا.