الحياة الزوجية .. معاني غائبة
إن مما لا تخطئه العين اليوم بين أوساط كثير من الشباب، عزابا ومتزوجين، هو حالة من الإحباط واليأس من إمكانية أن يحظى المرء بحياة زوجية هنية وسعيدة!
لا شك أن الزواج أضحى من أصعب القرارات التي قد يتخذها المرء في حياته، وقد بات يشكل واحدا من أكبر هموم الشباب المقبلين عليه؛ وفي حين كان الزواج أمرا يسيرا فيما مضى، فقد صار اليوم عبئا يثقل كاهل الكثيرين لما طاله من تعقيدات، وبسبب ما صاحبه من تغييرات اقتصادية ونفسية واجتماعية فرضتها ثقافة هذا العصر الموغلة في المادية، وقد أفرز ذلك ارتفاع سقف التوقعات والمتطلبات بين الجنسين، وتغيرت الرؤية بشكل عام للمعاني والمفاهيم المرتبطة بالزواج وبناء الأسرة عند الكثيرين.
ولعل التجارب المريرة التي تتناقلها بعض الإناث، نازعات للتعميم، خلقت بينهن حالة من الإحباط بشكل صار مثيرا للقلق، إذ بات التفكير في الزواج من أكثر ما يؤرقهن ويؤدي بهن أحيانا إلى العزوف عنه مطلقا مخافة أن يخضن تجربة تحد من طموحاتهن وتطمس أحلامهن، بسبب ما عايشنه ربما عن قرب من تجارب فاشلة، معتقدات أن الملل والفتور والمشاكل اللامحدودة وانسداد الآفاق جزء من تركيبة الزواج!
وفي مقابل ذلك، تجد فئة أخرى من الإناث انطبعت في أذهانهن صورة مثالية عن الحياة الزوجية من خلال ما تروجه الأفلام والمسلسلات من مثاليات مغالى فيها، جعلت نظرتهن عن الزواج نظرة خارجية قاصرة وبعيدة عن الواقع، وهكذا صرن يعتقدن أن الزواج يتلخص في اللون الأحمر وبضع كلمات غزل وحب منمقة ورسائل وردية وشوكولا ودببة، وتحلمن وتتخيلن أن هذا ما ستكون عليه حياتهن؛ لكن ما أن تلج إحداهن مؤسسة الزواج وتجد نفسها غارقة في لجة الالتزامات والمسؤوليات، وينكشف المعدن الحقيقي للزوجين مع انقضاء أيام العسل وزوال الدهشة وخفوت مشاعر الوله والعشق الأولى وتسلل الروتين إلى حياتهما، تجد نفسها هذه الأنثى أمام واقع لم تحسب له حسبانا وأمام تفاصيل لم تأخذها بعين الاعتبار يوما، أو لعلها غضت عنها الطرف مستخفة، وهي التي كانت غارقة في الرومانسيات وفي التفكير في ليلتها الحالمة، تجد نفسها، ذات يقظة من حلم، قد تلبسها اليأس والملل وخيبة الأمل والألم.
إن هذه الهالة التشاؤمية التي باتت مسيطرة على عقول كثير من الشباب والشابات، وتبرز خصوصا من خلال بعض النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلتني دوما أتساءل: ألهذا الحد صار الزواج مخيفا؟ ألهذه الدرجة فقدت الإناث ثقتهن في الزواج وفي وجود أزواج يعتمد عليهم في معترك الحياة الصعبة هاته؟ رغم أن هناك الكثير من النماذج الايجابية والناجحة في حياتها الزوجية تحيط بنا، لكن يبدو أن الوعي البشري ميال بطبيعته إلى رؤية السلبيات أكثر من إدراكه للإيجابيات، وأن تلك النماذج في نظرهن لا تعدو أن تكون من النوادر التي لن تغير من واقع الحال شيئا.
إن تغيير الواقع يبدأ بفهم السنن الكونية وبتصحيح المفاهيم المغلوطة التي أكسبتنا إياها العادات والتقاليد والثقافة التي نعيش فيها- وأغلبها متجاوزة- والأفكار الغربية الوافدة علينا التي غيرت مفهوم الزواج ومفهوم بناء الأسرة كمؤسسة قائمة على السكن والمودة والرحمة والاحتواء، وليست حلبة مصارعة يتسابق فيها كل طرف للتحكم والتغول وفرض ذاته وإخضاع الآخر، أحيانا إلى حد السأم والاختناق.
من النواميس الكونية التي طبع الله عليها الأشياء مبدأ الزوجية، “ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون”، هذه الآية التي تؤكد على تفرد الله سبحانه وتعالى ووحدانيته وتقر بنقص المخلوقات وافتقارها لغيرها، تؤتث لحقيقة أن بني البشر في حاجة للزواج مادام الكون برمته قائما على مبدأ الزوجية وأن استمراريته مرتهنة به، إذ لا ولن يكتمل وجود الجنسين إلا بأحدهما، فالأنثى بحاجة لشريك يقتسم معها المسؤوليات ويتشارك معها الأفكار والقرارات ويشاركها الاهتمامات والطموحات، ومؤنسا يكمل معها المسير ويبدد عنها وحشة الطريق، وصديقا يكون لها السند عند الضيق، ورفيقا يكون لها البلسم عند الجرح، وسقيا طيبة عند الظمأ؛ إن الأنثى تحتاج شخصا يواري سوءة ضعفها ويلملم شتات روحها ويكفكف دمعاتها؛ شخصا يحترم شخصيتها وأفكارها ويأخذ بآرائها ويستشيرها في أمورهما الخاصة؛ إنها بحاجة لشخص يؤمن بأن عاطفتها الجياشة لا تعد ضعفا إنما هي قوة تفوق قوى الوجود إن لم تعدلها، هي بحاجة لشخص يساندها حتى تبلغ طموحاتها وتحقق أهدافها، وهذا لن يتأتى لها إلا بوجود زوج يكملها ويرفق بها لا سيدا يسطو عليها ويخنقها.
والذي نقوله في الأنثى ينطبق أيضا على الرجل، فمذ خلق الله سيد الخلق الأول آدم، ورغم النعيم المخلد الذي أغذقه به في الجنة، لم يكتمل وجوده ولم تتبدد وحشته إلا حين خلق الله له مؤنسته أم البشر حواء.
وهذا سيد البشرية يوم نزل عليه الوحي رجع وفؤاده فارغا، يرجف هلعا إلى زوجه خديجة رضوان الله عليها؛ هو لم يختر صاحبه الصديق ولا عمه المشفق، بل التجأ إلى امرأة لتبدد وحشته وتدثره بعطفها وتفيض عليه من فيوض السكينة وتبث في أوصال روحه الطمأنينة…والأمثلة عديدة في هذا الباب لا يسعنا إحاطتها ولا ذكرها بالتفصيل.
في ظل ما قيل، هناك من سيقول بأن كثيرات استطعن أن تتفوقن في حياتهن دون وجود زوج بجانبهن، وأن أخريات ما ان تحررن من سطوة الرجل استطعن بلوغ ما لم تبلغنه قبلا وهن مرتبطات، وأن العديد من الرجال استطاعوا التفوق والنجاح دون أن يتزوجوا، ويسوق لنا أمثلة ونماذج من السلف الصالح ممن لم يتزوجوا وتفرغوا للعلم والعبادة، لكنها تبقى اسثناءات في ظل القاعدة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسقط القاعدة بالحالات الشاذة، لأن تحقيق الذات مقترن بمبدأ الزوجية التي هي سنة من سنن الله في الكون، كما أشرنا آنفا، ولا يمكن لمؤمن أن ينفيها.
أن يجد المرء روحا تأنس إليها روحه و نفسا تسكن إليها نفسه وتألفها وتكملها معناه أن يتقبل الآخر كما هو، فالاختلاف هو الشرط الأساسي لتحقيق مفهوم التكامل “ولذلك خلقهم”، وأن يضع نصب عينيه أن شريك حياته غير كامل ولا خلا من عيب، لأن الانسان بطبعه يظل محدودا في قدراته وقاصرا بإمكاناته ورغباته، وإنما الكمال والتفرد لله وحده دون غيره.
إن إدراك هذه المعاني يساعد المرء على تبني نظرة واقعية وإيجابية للحياة الزوجية، فلا يتوقع من شريكه ما هو فوق طاقته المحدودة، وأن يكون كاملا لا عيب ولا نقص فيه، بل يسعيا معا لتجاوز عيوبهما وإصلاح نقائصهما ما استطاعا، لا يعني هذا بأي شكل من الأشكال الخوض في محاولة لقولبة وتشكيل شخصية طرف على مقاس الآخر ووفق ما يمليه عليه هواه ونزواته، وإنما الإصلاح ابتغاء إرضائه وإسعاده في حدود مقدرته، لأن أصل كل تقدم ومفتاح كل تغيير وصلاح كل حال وبيئة لا يتأتى إلا بصلاح الأنفس “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، كما يبادر أولا بتغيير حاله وإصلاح نفسه وتوطينها على تقبل غيره والتعايش معه، فيكفي أن نغير ما بأنفسنا ونغير نظرتنا للأشياء من حولنا حتى يتغير واقعنا.
إن إدارة الاختلاف بين الزوجين ينبغي أن تظل في حدود المعقول وتبعا لقدرة كل طرف على بذل جهده لارضاء شريك حياته وتجاوز كل ما من شأنه أن ينغص عليهما حياتهما ويكون سببا لخلافات هما في غنى عنها، مع مراعاة اختلافاتهما تلك وفق مع ما تنطوي عليه طبيعة كل منهما في ظل مفهوم التكامل ومبدأ “نختلف لنأتلف”، وذلك من خلال شيء من التنازل والتغافل والصبر.
ثم علينا أن نعي جيدا أننا لا ننال مرغوباتنا على هذه الأرض مجانا، لا بد من أن نسأل أنفسنا دائما عن الاستحقاقات التي دفعناها كي يظل وميض الحب متوهجا في بيوتنا، وعن التضحيات التي نحتاج أن نبذلها معا لنيل حياة هنية.
واهم هو من يظن أن بإمكانه أن ينال حظه من السعادة الزوجية بتعويذة أو وصفة سحرية تؤتي أكلها كل حين، أو بمجرد الانخراط في دورة تكوينية عن “كيف تكون سعيدا مع زوجك” في ثلاثة أيام، أو بإسقاط تجربة زوجين على حياته حرفيا. إنما السعادة قرار يعتمد على مدى إصرار الزوجين لبلوغها معا، واتخاذ كل ما يجب من أسباب لأجل ذلك مع التوجه بالدعاء لرازق التوفيق والسعادة؛ وواهم أيضا من يظن أن الحياة الزوجية حياة وردية خالية من المشاكل والعقبات، لأن ذلك لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب الخيال في ظل الضغوطات التي تفرضها الحياة، خاصة في هذا الزمان، وما تنطوي عليه طبيعة الزوجين من اختلافات طبيعية.
إن ما يطيل عمر العلاقات الزوجية هو ما تنبني عليه من ثقة متبادلة واحترام لمشاعر الآخر وأفكاره وطموحاته، ومن ذكاء في تقدير المسافة بينهما واحترام خصوصيتهما والانتباه للتفاصيل البسيطة التي من شأنها إسعاد كل واحد منهما.
السعادة الزوجية لا يمكن تحصيلها إلا إذا ارتقى الزوجان معا بوعيهما وفكرهما وروحيهما واهتماماتهما، فالاهتمامات والتطلعات هي ما يحدد جوهر الانسان الحقيقي. وإن ما تعلمه لنا التجارب الذاتية بعد معاناة، تختصره علينا الكتب والاعتبار بتجارب الآخرين والانشغال بما من شأنه أن يرقى بنا من المادية إلى معارج الروح ومراقي الفكر، فهذا أبلغ السبل للظفر بعيشة رضية هنية.