لازلت أتذكر لحظات دهشتي أمام مقرر رياضيات الباكالوريا وأنا في سنوات الإبتدائي، بدا لي الأمر كأني أطالع تعويذات سحرية سيستحيل علي فهمها أو حل طلاسمها ولو بعد سنين. ولازلت أتذكر كيف كنت أحدث أصدقائي عنها وما ينتظرنا من تحدي كبير ومستحيل. غير أنه بتوالي السنين بدأت تتوضح معالمها لتصبح في منال كل منا ولتغذوا سهلة القراءة والفهم وحتى الحل بعدها.
ولازلت استشعر تلك الرهبة التي أصابتني وأنا على وشك دخول مدن كبيرة كمراكش والدار البيضاء وذلك الخوف من حجمها وجهل خباياها حتى ظننت أني سأكون عاجزا على العيش داخلها، غير أن الوقت كان كفيلا باعتيادي عليها والتعرف على معالهما الكبرى والتنقل بهدوء داخلها.
هو نفسه ذات الاندهاش الذي يتكرر أمام كل شيء نجهل خباياه وحجمه الحقيقي، وهو ذات الزمن الذي كان كفيلا بتوضيحها شيئا فشيئا.فكثيرة هي الكتب التي تحدثنا عنها باعجاب قبل اقتنائها لترانا نعتزلها بعد الصفحات الأولى، وكثيرون هم الاشخاص الذين رأينا فيهم الروعة والكاريزما وتلك الهالة من الجمال ليتضح مع الزمن وبعد نقاشات بسيطة أنهم أشخاص عاديون لهم من الصفات جميلها وقبيحها.
كلنا يبدي انبهاره بمجهول لم يتعرف عليه، فأجمل قصائد الغزل خطتها أيدي من لم يكتب لهم لقاء أحبتهم، ولو وجدوا لذلك سبيلا وتقاسموا مشاكل الحياة اليومية بهمومها وعيوبها لما بقي الأمر على تلك الروعة.
وأجمل كلمات المدح والإنبهار هي ما كتبها الزائر في لحظات زيارته الأولى، ولو تأخر في كتابتها لحذف الكثير من عبارات الدهشة والإعجاب.
ورغم كل هذه التجارب والحقائق إلا أننا لا نتواني في أن نقع في نفس الفخ في كل مرة، فترانا مندفعين أمام مشاعر الانبهار نعيش هواجس الرهبة رغم أننا ندرك يقينا أنها ستتلاشى مع الوقت لنجد أنفسنا أمام صور عادية لم تكن بحاجة لكل هذه الضجة والاستنفار.
للزمن مفعول سحري لا يتوقف عند تضميد جراح الخيبات وكشف حقيقة الخدعات، بل هو قادر أيضا على تحجيم الصور المبالغ فيها، قادر على تبديد غيوم الإعجاب وكبح روح التهور التي تسكن دواخلنا. فلننصت لحكمة الزمن ولندع له الفرصة لصقل شخصياتنا فهو خير المرشد والدليل.