من غنائم رمضان التي تساهم في التغيير الذي ننشده كل سنة بقدومه هي تلك الفرصة في استقطاع وقت لتجديد الصلة بكتاب الله عز وجل و تأمل آياته و استحضار معانيه قراءة و عملا. كل حرف في القرآن بثقل و معنى عظيمين لكن مع كل ختمة تستوقفك آيات أكثر من أخرى و في كل مرة تكتشف معان جديدة و تجدد العهد مع إلهك, مع محيطك و مع نفسك التي بين جنبيك. القرآن دستور, لكنه مختلف عن كل الدساتير الجامدة.
من بين الآيات البينات التي يمكن أن تستوقفنا في رمضان و دونه من الأيام هي آية اهدنا الصراط المستقيم, آية طلب الهداية, آية الافتقار ,آية طلب العون و السداد, آية دعم النفس و تجديد العزائم,الآية التي تستحضر بها ضعفك.
كنت و لعهد قريب عندما اذكر كلمة الصراط يتبادر إلى ذهني كل حديث يصف صراط يوم القيامة و حدته و صعوبة عبوره قبل الوصول الى النعيم الأبدي. لكنني دائما ما أتساءل بما أن القرآن هو دستور للحياة فالأكيد أن طلب الهداية للصراط المستقيم هو طلب دنيوي قبل أن يكون طلبا أخرويا, الأكيد أن هناك الان و نحن على قيد الحياة صراط يجب أن يعبره كل منا, بحيث يجرب الإنسان كل الطرق و يصطدم بالمنعطفات و يقف شاردا أمام مفترقات الطرق, ثم يستمتع بمبهجات الطريق و يتعكر صفوه بما تنفر منه العين و النفس على نفس الطريق ..و هو سائر على الدرب يعي انه في سير و بحث مستمر على ذلك الصراط المستقيم الذي تستقيم به حياته و يكون ممهدا له لعبور الصراط الأخروي, في طريقه يعي انه لا زالت دروب من الهداية لم تفتح بعد و أنه ليس صحيحا انه ما هو عليه الآن يكفي !
-اهدنا الصراط المستقيم هو طلب استعانة… فنفس الإنسان بطبعها لوامة و لا يوجد إنسان راض عن نفسه كل الرضا, فهو يحاول كل مرة أن يزداد علما و إيمانا,علما بدينه أو فهما لنفسه أو فهما لحقيقة الدنيا..إنه و في طريقة لاكتشاف كل ذلك يمكن أن يضيع أو أن نتنابه الوساوس و ربما يضل, فطلب الهداية هنا طلب لأن يرشدنا سبحانه بالبوصلة السليمة للبر الآمن “واعبد ربك حتى ياتيك اليقين”.
-اهدنا الصراط المستقيم, استخارة متجددة…أن تطلب الهداية مرات عديدة في الصلوات المكتوبة دليل على ضعف حولك و قوتك تجاه اتخاذ القرارات مهما كان علمك و تجربتك العملية و الاجتماعية. مع مرور الساعات و الأيام لا بد أن تصادفنا مواقف يجب أن نأخذ فيها قرارات في الحين أو حين يتطلب الأمر ردة فعل معينة, فأنت بقراءتك الآية يجب أن تستحضر طلب العون على التزام الحكمة و طلب السداد في القول و العمل المناسب في الوقت المناسب, فقد تكون الكلمة منك كلمة حق لكنها لا تذكر لا في وقتها و لا في مكانها فترجع عليك ندما و حسرة…طلب الهداية هو أيضا طلب للتوفيق في الأمور العظيمة التي قد تغير مجرى حياتك…
-اهدنا الصراط المستقيم, طلب أن نكون في المكان المناسب نؤدي المهمة الذي خلقنا لأجلها و التي لا يمكن ان تشبه الآخرين فكل ميسر لما خلق له…فطريق بحثنا عن الصراط الذي سمي صراطا و لم يسمى طريقا لأن الصراط هو الطريق الصحيح الذي لا اعوجاج فيه وقد زاد المعنى تأكيدا وصفه بالاستقامة, فطلب الهداية هنا ليس طلبا لنكون في المكان المتعارف على كونه منسقا جميلا يفترخ كل منتم إليه بل طلب لنكون في المكان الأقرب لمهمتنا حسب قدراتنا و علمنا و اهتماماتنا و فطرتنا. ونحن في خضم التجارب الاجتماعية و العملية نخوض الطرق و السبل طلبا لاستقرار يخدم تأدية هذه المهمة على أكمل وجه…
-اهدنا الصراط المستقيم طلب لضبط النفس و الفكر في وسط زيفت فيه الحقائق و لوثت فيه القيم وتعددت فيه منصات الإدلاء بالرأي, و شوش كل ذلك على الفطرة التي يخبت نورها فينا فيظهر مكانها كل ما هو غير إنساني .. فاللهم اهدنا لما اختلف فيه من الامر بإذنك, لكي لا ننساق وراء السخط على الواقع و لعن الأحداث و ننسى غرس تلك الشجرة التي طلب منا غرسها في أعظم و أهول حدث…
-اهد”نا” الصراط المستقيم طلب للهداية الجماعية لأنها أعظم بركة فالعمل بروح الجماعة تظهر ثماره أسرع و انجع من العمل الفردي و لا يحتاج ذلك للكثير من التنظير لأن أبسط التجارب تشير لهذه النتيجة, هذه الدعوة الجماعية تفوق على الأنا التي تحاصر الآخرين بالانتقاد و اللوم, وطلب لسداد الصالح العام.
اهدنا الصراط المستقيم لا نذكرها عبثا 17 مرة في اليوم …فهذه دعوة لتامل فاتحة الكتاب و تجديد العهد مع الدستور كاملا و تجاوز قراءته السطحية لقراءة أكثر تدبرا و عمقا!