في أحد أيام فصل الشتاء الباردة بفاس و بعد الانتهاء من الدراسة، استقللت الحافلة المتجهة صوب منزلي.. كان الجو ممطرا و السماء شاحبة و كأنها غير راضية عن حال هذه المدينة.. المهم، أديت واجب التذكرة و جلست بجانب النافدة أتأمل بعض التفاصيل التافهة التي لم تتح لي فرصة ملاحظتها من قبل.. إلى أن تذكرت أن في حقيبتي رواية، انتابني حماس كبير لأكتشف محتواها لكني تذكرت أنني في الحافلة العامة وهذا مكان غير مناسب للمطالعة أو ممارسة أي نشاط ثقافي.. فمنذ ركوبي الحافلة أول مرة إلى يومنا هذا لم يسبق لي أن رأيت شخصا بحوزته كتاب ما عدا كناش الحالة المدنية أو الكتب الإشهارية التي توزع في الشارع العام. قمت بنضرة خفيفة على وجوه الراكبين فمنهم من يتأمل السقف (للإشارة الكتاب الذي كان بحوزتي يحمل اسم السقف) و منهم من يكتشف خطوط يده أما ما تبقى من الركاب فهم بين النوم و اليقظة..
بعد تفكير عميق دام بضعة ثواني قررت أن أفتح الكتاب الذي بين يداي في محاولة لكسر القاعدة، فتحت روايتي وشرعت في قراءة صامتة غير مكترث للنظرات التي ترمقني وكأنني كائن فضائي، فهدفي من الأساس هو استفزاز فضولهم. العجيب في الأمر أنني ما إن بلغت الصفحة السادسة حتى فوجئت بالشخص الجالس بجانبي يخرج من محفظته كتابا و يقرأه بخشوع تام و كأن هدفه الحفظ لا القراءة..
أثناء محاثة خفيفة دارت بيننا, أخبرني أنه طالب بكلية الحقوق و أنه سيقوم باجتياز امتحانات في الأيام القليلة المقبلة و أضاف أنه هو الآخر تمنى الاستفادة من مدة الرحلة (حوالي 45 دقيقة) في المطالعة و الاستعداد لامتحاناته الجامعية لكنه للأسف خانته الجرأة لاتخاذ المبادرة.
خلاصة القول فلنكن التغيير الذي نريد رأيته في المجتمع.. فلكي نرقى بهذه الأمة لا نحتاج منظرين بقدر ما نحتاج من يتخذ المبادرة، نحتاج عقول خلاقة مؤمنة بما تقوم به. يقول حبيب الله صلى الله عليه و سلم [بلغوا عني ولو آية] ، فما بالك إذا أيقظت فكرا نائما أو زرعت بادرة حسنة يتبعها الناس .. ولا تجعلوا نظرات الاستغراب و الدهشة من حولكم تقف حاجزا أمامكم فالعظماء هم من يحولون نظرات الدهشة إلى نظرات إعجاب و تقدير .