إن الحديث عن الموت حقيقة لا مفر منها، أمر مهضوم ولا نقاش فيه ومقبول عند أغلبية الناس، لكنه أمر يعاني منه البعض الآخر من ناحية التفكير فيه؛ حيث لم يبلغ مستوى أن يكون “حقيقة كاملة”، فهي حتمية بالنسبة إليهم، لكن هناك تحدٍّ بإمكانية التحكم فيها وحلها كـ “مشكلة” مثلها مثل باقي المشكلات التي تواجه العالم، ويتم حلها عن طريق العلم والدراسات العلمية والاختراعات، وهذا الأمر كما يدّعون فهو يتطلب منهم سنوات وقرون من الدراسة، والبحث والاكتشاف من قبل العلماء من أجل إيجاد طريقة علمية تمكنهم من توقيف “الموت” عن طريق الدماغ مستقبلا!
استوقفني مؤخرا برنامج إذاعي على الأنترنت “بودكاست” على صفحة بمسمى “ماتريوشكا”، تناولت موضوعا لأول مرة يقع على مسامعي، مفاده ابتكار آلية حديثة قيد التنفيذ، يقرر الشخص القيام بها مقابل أموال طائلة يتم أداؤها في صندوق التأمين على الحياة، وعند موته سريريا تذهب تلك الأموال بدل أن تؤول إلى أسرته نحو مركز التبريد العميق، وهو مركز تم ابتكاره لتبريد الجسم في درجة حرارة منخفضة تصل لـ °190 تحت الصفر، لتوقيف وظائف الجسم كليا أو فقط تبريد جزئي للدماغ دون الجسم، وتكاليف هذا التبريد تكون مضاعفة إذا اختار الشخص الخيار الأول في حين تكون أقل كلفة بالنسبة للاختيار الأخير.
هذا التوقيف يصاحبه توقيف للزمن أيضا لاستغلاله من أجل التفكير في إيجاد حل فعلي لمشكلة “الموت”. مجموع مراكز التبريد العميق ثلاثة في العالم بأكمله، مركزين بالولايات المتحدة الأمريكية، يحتوي على 300 جسم ( جثة)، والمركز الثالث بروسيا يحتوي على 50 جثة، وهناك 1000 شخص حول العالم مشارك في أحد تلك المراكز لكي تحظى جثته بتلك الخدمة بعد موته مقابل تكلفة تقدر بـ 500 يورو سنويا للتبريد الجزئي (للدماغ فقط) وتتضاعف التكلفة إذا قرر الشخص التبريد الكلي للجسم.
الأمر الذي أحدث تشنجا فكريا لدي، أن هؤلاء المشاركين بحسهم التطوعي من خلال تجميد جثتهم بعد الموت يؤمنون جزما بأن فكرة إيجاد حل للموت لا بد لها من تحقق ما دام للعلم من تطور وتحول لا منقطعين. سيكون ضربا من الجنون أن يجمد الإنسان جثثه على أمل أن يفك لغز حقيقة سبق الحسم فيها منذ الميلاد، فهي لغز محلول ولا حل له، فيتطوع بجسمه ليحل (مشكلة) كما يعتقدونها، لغيره من الأجيال الآتية في المستقبلات المجهولة.
ما يثير حفيظة التفكير أيضا، كيف أن غريزة البقاء كلما زاد الزمان تطورا، كلما زادت قوتها وجبروتها عند البشر، كيف للعقل الإنساني أن يصل لمستوى أن يفكر بكل ما أوتي من علم ومنطق يملكه تبني قناعة واثقة بأن وجود حل للموت مستقبلا أمر ليس بمستحيل. معلوم أننا نمر بمراحل في الحياة بشكل تدريجي تلقائي، مرحلة رضاعة ثم طفولة، والمراهقة وكم وددنا أن نكبر لنصل لقوة الشباب ثم كبرنا وأصبح كل متمنياتنا أن نرجع إلى أحضان الطفولة، ثم مرحلة الكهولة التي تمر بلمح البصر، فالشيخوخة التي نتألم بمجرد التفكير فيها، لأنها تحمل في تصوراتنا عنها أنها مرحلة ستحرمنا من الأنا خاصتنا وأن جسمنا سيذوب ولذاتنا ستنقضي…نصبح فيها نتمنى أن تأتينا الموت كي نرتاح من سفر الحياة لأننا سنكون حينها قد أرهقتنا بما يكفي من المتاعب كما لا تخلو من اللحظات القصيرة من الحبور، كنا فيها عابرين إلى أجل لا نعلمه ولكننا حتما نتوقع حدوثها في ومضة.
بالرغم من الآلام التي عاشها الإنسان والأحداث والصراعات النفسية والأمراض والتحديات والكوارث، لا تزال غريزة البقاء لديه متقدة لا تنطفئ مع ما يمر به من مواقف هبوط وصعود، يحاول متشبثا بهذا العالم وهو يعي أن هناك عالما آخر يمكن أن يكون فيه مرتاحا وسعيدا، هل لأن الإنسان بطبعه يتعود الألم حتى يصبح لذة مرجوة؟ أم هي محاولة لفهم الخلود في حياة تملؤها المتاعب والكبد؟ ماذا إن كان خوفا من خوض تجربة الحياة الأخرى التي لم يطأ قدمه بعد فوقها؟
الدنيا فناء كحقيقة مطلقة فلماذا التجاوز؟ تجميد الجسم ممكن فماذا عن الروح؟ تساؤلات محيرة يمكننا قطعها بأن الحاجز الذي بين الحياة والموت هو اللاعودة، واتخاذ موقفنا تجاه حقيقة الموت مسلّم أن يكون واقعا، والتقرير بأنها جزء من حياتنا وليست غريبة، فهؤلاء الذين ذكرنا سلفا أنهم يعتقدون الموت “مشكلة” يمكن حلها، فإن طريقتهم في التفكير ونظرتهم غير الواقعية للموت هي التي تثير قلقهم ومخاوفهم من الموت.