هكذا تكلم زرادشت بين الفلسفة والطب الفيسيولوجي

“إن مجمل فلسفة نيتشه هو الذي يبقى مجردًا وعسير الفهم إذا لم نكتشف ضد من هي موجهة والحال أن السؤال ضد من؟ يستدعي عدة أجوبة.” جيل دولوز: نيتشه والفلسفة.

في بحثه الرائع عن «نيتشه: والنزوع النفسي نحو الارتقاء» الذي خصصه فيلسوف العِلم الفرنسي غاستون باشلار لتحليل شخصية فريدريك نيتشه من خلال العناصر الرئيسة المكوِّنة للطبيعة حسب فلاسفة الطبيعة الإغريق القدماء (النار، الهواء، الماء، التراب) وصف فيه باشلار الفيلسوف الألماني بـ«الكائن الهوائي بامتياز».

حقًا، إنه بمجرد ما يحمل القارئ كتابًا من كتب هذا الفيلسوف ويبدأ بقراءة كلماته، يشعر أنه أمام فكر مختلف، أمام فكر يحلق به في عنان السماء، يُعبر عنه نيتشه بكلمات على شكل خواطر، هي أقرب ما تكون إلى ما كان يسميه القدماء بـ«الحكمة» منه إلى التحليلات الفلسفية المجردة، وحتى في كتبه التي أراد لها أن تعبر عن فلسفته الخالصة نجده يستطرد في غير ما موضع ليسطِّر بقلمه حكمة أو ملاحظة غالبا ما تكون حمَّالة أوْجُه، بلغته الساخرة تارةً والجادة تارة أخرى، حتى قد تكون سخريته ذاتها ممزوجة بالكثير من القسوة، كيف لا وهو فيلسوف القوة الأول والمبشر بالإنسان المتفوق؟

احتار الباحثون في تصنيف مؤلف نيتشه الأشهر «هكذا تكلم زرادشت» فمنهم من وضعه في خانة الكتب الشعرية لكون نيتشه شاعرًا قبل أن يكون فيلسوفًا، وكتابه هذا ضمَّنه قصائد شعرية مهمة إذا لم تكن الأهم له على الإطلاق، ومنهم آخرون الذين صنفوه في خانة الرواية، فنيتشه يروي لنا قصة زرادشت الذي احتمى بالجبل للتأمل والتّفكُّر، ثم بعد أن بلغ سن الأربعين (وهي السن التي كتب فيها نيتشه مؤلفه هذا) نزل زرادشت ليعطي للناس من حكمته التي علمته إياها الخلوة في أعالي الجبال، ويبشر بإنسانه المتفوق… وهكذا تتوالى الأحداث فيلتقي بالرجل البهلوان، والمدقق في أمور العقل كما يلتقي بظله في إحدى الطرقات… إلخ.

ومنهم من يصنفه في خانة السيرة الذاتية لكون الكتاب يحمل في طياته تجربة نيتشه الذاتية مع الألم والحب وقسوة الحياة… ونشأته هو في بيئة مسيحية متشددة (حيث كان أبوه قسيسًا) وتأثره فيما بعد بفلسفة شوبنهاور التشاؤمية في إحدى مراحل حياته، وبالضبط في سن الشباب…

كل هذا نجد له صدى في مؤلفه المذكور، يعبر عنه نيتشه بطريقته الرمزية تارةً (كما فعل مثلًا في نقده لفلسفة شوبنهاور، والذي يصف اتباعه بـ«الذين تعبت منهم الحياة») وبطريقة صريحة تارة أخرى (كما فعل في نقده للمسيحية في صيغتها الأخلاقية ورفضه لقيمها حيث نصَّب نفسه عدوًا لها). ومنهم من صنفه أيضًا في خانة الفلسفة لسبب بسيط وهو أن نيتشه فيلسوف. والحق أن من يقرأ كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» يجد نفسه أمام خليط من كل هذه التصنيفات: شعر، فلسفة، سيرة، نقد ديني.

يبدأ الكتاب بكلمات وعبارات مفعمة بالرجاء على شكل استهلال، لكن ممن يطلب زرادشت الرجاء أمن الإله؟ لا.. بل يراجي الشمس ذلك الكوكب المشع بنوره الساطع في أعالي السماء، تمامًا كما هي حكمة زرادشت والتي يصفها بالكنز الذي يريد أن يقدمه للناس، فينزل من على الجبل ليلاقي الناس المتعطشين لحكمته -كما كان يعتقد- إنه يريد أن يقدم للبشر هدايا لا تقدر بثمن، إنه يريد أن يعطي، إن نفسه تتعطش للعطاء، لكن سيكون عليه أن يعطي فقط ويجزل العطاء دون أن يأخذ هو من الناس شيئًا.

إن أول من يلتقي بهم زرادشت وهو في طريقه إلى «عالم الناس» مبتعدًا عن حياة الوحدة، قديس يتعبد وحيدًا في الغابة فيدور بينهما حوار؛ إنه حوار بين مؤمن متشبع بالقيم الأخلاقية والزهدية وبين رجل كان مؤمنا فيما مضى، لكنه الآن فقد كل ما كان يحتمي به من قيم يبرر بها حياته الزهدية – الإيمانية، لقد أفقدته حكمته ذلك، وفي آخر هذا الحوار ينصح القديس زرادشت الحكيم بلهجة تحذيرية من الناس الذين ينوي زرادشت أن يعطيهم من حكمته، فيصورهم له القديس بأنهم أشرار تافهون، لكن زرادشت يرفض أن يلتفت لمثل هذه التنبيهات، إن إرادة زرادشت لم تعد تفكر إلا في جواب عن سؤال: كيف نوجد الإنسان المتفوق؟

لذلك فهو يحب الناس، لكن حبه ليس حبًا عاديًا كما يحب أي إنسان إنسان آخر، كلا.. إنه يحب الإنسانية المتجسدة في إنسانه المتفوق، إنه يحب «الإنسان المفرط في إنسانيته» بتعبيره، إنه لم يَعُد يرى أمامه إلا رجله المتفوق هذا، وهو يبني صرْحَهُ ويشق طريقه نحو تجسيد بشرية متفوقة ويَنشد الأعالي، لذلك فهو الآن يتجاهل نصيحة القديس ويودعه باحترام ودعابة تدل على مرح زرادشت وتفاؤله، لكنه ما إن يدير وجهه حتى يبدأ بالاستهزاء بالقديس والسُّخرية من طريقة تفكيره الطفولية؛ مما يدل على خبثه كذلك.

ينزل زرادشت إذًا إلى الناس فيصادف نزوله حفلًا تهريجيًا يقام في وسط المدينة، فيبدأ بإلقاء خطبه على الناس ظنًا منه أنهم سيعيرونه سمعهم، قال زرادشت: «إني أبشركم بالإنسان المتفوق.. الإنسان عبارة عن حبل مشدود بين الحيوان والإنسان المتفوق.. الإنسان كائن ينبغي تجاوزه.. فماذا فعلتم لتحقيق ذلك؟»، وإذا بِالجَمْع يضحكون عليه ويسخرون من حكمته، فيعيد زرادشت كلامه بطريقة أخرى لعلها تكون أقرب إلى أفهامهم، لكن لا أحد يسمعه أو يعيره انتباهًا، لقد وضعوا أصابعهم في آذانهم وبدأوا يصرخون ويزمجرون، عندها فقط أدرك زرادشت كلام القديس. لقد أصابه حزن عميق وبدأ يردد في قرارة نفسه «ربما يكون فمي ليس هو الفم المناسب لهذه الآذان» ولكن شوق زرادشت للإنسان المتفوق يبدد هذه الأفكار، إنها تمنحه القوة في كل مرة يفكر فيها أن يستسلم أو يصاب بالإحباط.

يعدُّ نفسه لتكرار كلامه مرة أخرى، وإذا بواقعة فظيعة تحدث أمامه تشخص لها العيون؛ لقد كان بين الجمع بهلوان يمشي على الحبل في السماء وإذا بتوازنه يختل بعدما رمى بعكازه وهوى في الهواء، كتعبير عن رفضه لتلقي الأوامر من سيده، كتعبير عن تمرد وثورة. سقط المهرج على الأرض فأصيب الجميع بالرّعب، فهرعوا مبتعدين عن مكان الحادث، لكن زرادشت أحس بفرح عميق في دواخله، قال لنفسه: وأخيرًا وجدت بين هؤلاء الناس رجلا يستطيع أن يرفض الأوامر، لقد فضل الموت على أن يعيش عبدًا خاضعًا، إنه الرجل الوحيد الذي يمكن أن يؤمن بي، إنَّ هذا المهرج لهو الصديق الذي أبحث عنه. لكنه الآن ساقط على الأرض بلا أدنى حركة. أسرع إليه زرادشت فهزه ووضع رأسه على كتفه وإذا به لا يزال حيًّا، لم تغادره روحه بعد، قال المهرج -بصوت خفيض- لزرادشت: «أنا مجرد مهرج.. قضيت حياتي كلها أُضحك الناس لقد عشت حياة تافهة» فأجابه زرادشت مواسيًا «لا يا صديقي أنت رجل شجاع، لقد عشت حياتك مخاطرًا، ورحبت بالموت عندما لم تتقبل العبودية» ابتسم المهرج وأحس في آخر لحظة له في هذا الوجود أنه استطاع أن يجد له صديقًا أقرب إلى روحه وطريقة تفكيره فآمن بحكمة زرادشت ثم مات، فَرِح زرادشت لأنه استطاع أن يجذب إليه أول مؤمن به وبحكمته.

لقد أنكره الجميع وعندما آمن به رجل، لم يكن سوى ميت. نعم إنه ميت ولكن زرادشت لا ينكر الجميل لقد آمن به الرجل، وإذًا فعليه أن يرجع له جميله، ورد الجميل معناه أنَّ عليه أنْ يأخذه معه أينما حل وارتحل، كما أن عليه أن يطعمه ويشربه كما لو كان يتعامل مع إنسان حي، وواحد من أهم أتباعه. هذا ما سيكلف زرادشت نفسه للقيام به سيحمل المهرج الميت على كتفيه ويطوف به في أرجاء المدينة، لكنه -بالرغم من حبه الشديد له- فسرعان ما سيمل منه، قال لنفسه إن حكمتك يا زرادشت تستحق أكثر من رجل ميت، أنت تحتاج إلى أُناس أحياء يبنون معك حلمك، ويشاركونك همومك، لا إلى أشخاص ميتين لا حول لهم ولا قوة. فيقرر أخيرًا أن يتخلى عن صديقه، فيضعه في أعلى شجرة شاهدها في الغابة كنوع من التشريف له كي لا تلتهمه الذئاب. ويرحل زرادشت من ذلك المكان المشؤوم إلى أمكنة أخرى يستطيع أن يجد فيها أناسًا أحياءً يقدرون قيمة حكمته ونظرته المستقبلية لبناء البشرية. وهكذا يسترسل نيتشه في رواية قصته الممتعة فيسافر بنا إلى مدن تترقرق بمناظر الطبيعة الخلابة في أعالي الجبال وأمام الوديان والأنهار، في وسط الهواء النقي.. ويلتقي فيها بأناس تختلف وتتباين أفكارهم ورؤاهم ونظرتهم للحياة وللحكمة.. إلخ. ويصف لنا نيتشه كل ذلك بأسلوبه الشعري الرائع.. وطريقته الأخاذة في الكتابة.

إن نيتشه ينبهنا في غير ما موضع من كتبه المختلفة إلى أن بناء الإنسان المتفوق ذلك الإنسان “المفرط في إنسانيته”، يتطلب فيلسوفًا وطبيبًا فيسيولوجيًا حاذقًا يستطيع أن يولد ويبعث الحماس في أعضاء الإنسان ويحفز إرادته، حتى يستطيع أن يقوم بدوره في الحياة على أكمل وجه «ويَفي لها بوعوده»، إن العقل هنا “يأتمر بأمر الجسم والغرائز- وبالتالي فالفكر تابع للإرادة لا العكس- لأن أكبر فيلسوف بالفعل هو الطبيب الفيسيولوجي” هذا ما كتبه نيتشه في جينالوجيا الأخلاق، ومنه فإننا نجد أنه يولي أهمية كبرى للطب الفيسيولوجي، لا.. بل إن نيتشه لا يعتبر أن هناك من يستحق أن يطلق عليه لقب فيلسوف إلا إذا كان هذا الأخير طبيبًا فيسيولوجيًا حاذقًا، ومن هذا المنطلق يهاجم الفلاسفة السابقين له ويصف فلسفتهم بالقصور والتفاهة.

يقول نيتشه في كتابه هذا هو الإنسان: «لقد أخذت مصيري بيدي، وعالجت نفسي بنفسي؛ الشرط الأساسي في ذلك -وهذا ما يثبته كل طبيب فيسيولوجي- أنْ يكون المرء معافى في جوهره». وهذا بالضبط ما يفسر لنا دفاع نيتشه عن الموسيقى التراجيدية التي تمنح الإنسان دافعا وتمده بطاقة سيكولوجيًة تجعله قادرًا على الفعل والحركة، وكتابه “هكذا تكلم زرادشت” بدوره يندرج في هذا الإطار أي أن قيمته تكمن في كونه قوة دافعة نحو الفعل والحركة، وبالتالي العمل من خلال «الإقبال على الحياة بكثافة» حسب تعبيره.

 

فـ «من أراد أن يتعلم كيف يطير -يقول زرادشت- عليه أولًا أن يتعلم كيف ينتصب واقفًا، وكيف يجري، وكيف يقفز، وكيف يرقص، فليس من رفة الجناح الأولى نتعلم الطيران» (تجدر الإشارة هنا إلى أن الجنود الألمان جلهم كانوا يحملون نسخة من كتاب «هكذا تكلم زرادشت» في حقائبهم خلال الحرب العالمية الأولى).

قام نيتشه بعملية قلب لمهمة الفلسفة، فبعد ما كانت مهمتها الأساسية هي البحث عن الحقيقة، أصبحت مهمتها معه هي البحث عن العلاج، لقد اعتبر نيتشه الإنسان «حيوانًا مريضًا» يجب أن نبحث له عن علاج، أما عن مصدر هذا المرض، فهي قيم الضعفاء والعاجزين، وأما السؤال عن كيفية نشوئها فإنها المصلحة، إنها مصلحة الضعفاء تكمن في قولهم للسادة “أنتم أحرار فيما تصنعون، فقد كان ذلك بهدف تحميلهم مسؤولية فعلهم وبالتالي إضعاف إرادتهم بعقال الضمير المصطنع” هكذا نشأت -حسب نيتشه- هذه القيم الأخلاقية عبر العصور، أما عن العلاج فلن يكون شيئا آخر غير التعاطي لمقارع المطرقة الفلسفية، والتي يربطها نيتشه ربطًا ديالكتيكيا مباشرًا بالطب الفيسيولوجي.

1xbet casino siteleri bahis siteleri