عصر وعصر!

1٬447

في كثير من الأحيان يتهيب الكاتب الكتابة في موضوع ما ليس لخطورته بل لسخافته، فما يمكن أن يقوله فيه يراه بديهيًا لا يستحق أن يُدون، ولكنه يصطدم ثم يعاود الاصطدام مرارًا بما يجبره أخيرًا على كتابة ملاحظات، ربما تساعد بعض المتساخفين على التقليل من سخفهم.

تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بموضوعات ينتقد فيها كاتبها مواقفًا وأحداثًا خالعًا إياها من سياقها الزماني، وناسيًا أنه يتحدث عن عصر آخر، ومُحاكمًا إياها بمعايير عصرنا متغاضيًا عن الاختلافات الكثيرة التي تستجد بين كل عصر وآخر، بل وأحيانًا بين كل عقد وآخر، وكلما تباعد الزمن كان من البديهي أن تتضح الاختلافات، ولا أريد أن أفصِّل في أشياء للتمثيل على الاختلافات عبر الزمان كأنواع المأكولات والأزياء مما يبدو واضحًا للعامة ولا ينشأ عنه سوء فهم، بل أود لفت النظر إلى أشياء أراها أكثر أهمية قد لا ينتبه لها كثيرون، ولا يعوون تأثير اختلاف الزمن عليها.

للمظهر العام للأشخاص دلالته التي قد تختلف جوهريًا بين عصر وآخر. قص الشعر وتطويله -على سبيل المثال- تختلف دلالته في عصرنا عن العصور القديمة والعصور الوسطى، فالصور المأثورة عن السيد المسيح عليه السلام تصوره ذا شعر طويل، وكذا يُعرف عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أن شعره كان طويلًا، وجميع قادة الجيوش كخالد بن الوليد، بل وحتى المحاربين العاديين كانت شعورهم طويلة.

الشعر الطويل كان معبرًا قديمًا عن عدم تفرغ صاحبه للعناية به، فكان شارة الأنبياء والمحاربين، بينما كان الشعر القصير المهندم علامة من علامات رفاهية الرجل واعتنائه بنفسه. ودلالة كليهما تختلف جذريًا في عصرنا؛ لذا فكِّر كثيرًا قبل أن تتساخف أيها الملحد في دلالة طول شعر الأنبياء.

الشيء نفسه يمكن أن يُقال عن الفروق الزمانية في اعتبار مستوى التعليم اللائق بالفرد عبر العصور، من حيث كونه تعليمًا نظاميًا أو غير نظامي، ثم من حيث الصف الدراسي الذي قد يصل إليه الشخص في التعليم النظامي، وكذا اختلاف اعتبار مستوى التعليم اللائق ونوعيته في ضوء النوع (ذكر/أنثى) عبر الأزمان.

حتى منتصف القرن العشرين كان الملوك والأمراء –وليس فقط عامة الشعب- أغلبهم لا ينتظم في تعليم نظامي مدرسي، وإن حدث والتحقوا بالمدارس والكليات فليس بالضرورة أن يكملوا مراحل دراستهم. أحد المتساخفين قريبًا كتب متسائلًا عن الدرجة العلمية التي وصل إليها الملك فاروق رحمه الله! علمًا بأن فاروق نال من التعليم ما لم يحظ به كثير من قادة عصره.

ونظرًا لقلة أعداد الملتحقين بالمدارس كانت الابتدائية درجة تعليمية لها وزنها، والحاصل عليها يحصل على لقب رسمي من الدولة دون دفع رسوم عليه كباقي الألقاب. هذا اللقب هو “أفندي”. الأديب الكبير عباس محمود العقاد لم يحصل على لقب رسمي غيره لأن دراسته النظامية لم تتعد الابتدائية، وكثيرون ممن صنعوا نهضة مصر والعرب الفكرية في العصر الحديث لم يكملوا تعليمهم وفقًا لمقتضيات ومتطلبات عصرنا، وليت من يتحدثون عن الشهادات يعوون معشار ما وعووا.

واحد من بقية هؤلاء الرعيل الذين صنعوا نهضتنا الفكرية رحل عنا منذ سنوات، وكان من الملحوظ أنه وهو العلامة الضليع في اللغة العربية وعضو المجمع اللغوي يعامله من هم أقل منه شأنًا من الأجيال التي تلته على أساس كونه في منزلة أقل منهم لأنه ليس حاصلًا على الدكتوراه مثلهم!! فهل غفل هؤلاء أم تغافلوا عن الفروق بين الأجيال؟

بالنسبة للنساء، إن تصفحنا كتاب قاسم أمين “تحرير المرأة” سنجده يدعو إلى أن تتلقى البنات شيئًا من التعليم الذي تصلح به نفسها وبيتها لأن الإناث لم يكن يتلقين غالبًا أي قدر من التعليم رغم عدم شيوع تزويج البنات في سن الطفولة، فلم ينتشر بين المصريين في أي عصر عادة تزويج الأطفال، وكانت أغلب بيوت مصر تزوج البنات في سن المراهقة، وهو فرق جوهري آخر بين عصرهم وعصرنا.

ونظرًا لأن البنات يتزوجن في سن مبكرة، كان عيبًا أن تخرج البنت البالغة كثيرًا من البيت؛ وكانت العائلات الكبرى التي يمكن أن تتحمل تكلفة تعليم بناتهن لا تسمح لهن بمواصلة التعليم الثانوي سواء تزوجن أم لا، فينبغي على الفتاة أن تتوقف عن الذهاب إلى المدرسة إن كبرت في كل الأحوال.

عليه، فإن جدتي التي لم يسمحوا لها بمواصلة تعليمها وأخرجوها من المدرسة، لو نظرتُ لها بمعايير عصري فسأعتبرها زورًا شبه جاهلة، ولكنها وفقًا لمعايير وظروف عصرها نالت درجة جيدة من التعليم.

وكانت بنات الطبقة الراقية لا يتعلمن غالبًا في المدارس بل يتلقين دروسًا في المنزل حتى سن الخامسة عشرة. الملكة فريدة والإمبراطورة فوزية وجميع أميرات العائلة المالكة المصرية –عدا الأميرة نيفين حليم- كلهن تعلمن في المنزل ولم يلتحقن بالمدارس مطلقًا.

نوعية التعليم أيضًا كانت فارقة بين الذكور والإناث؛ فالفتيات كن يتعلمن التطريز وأشغال الإبرة والتريكو والكانفاه وغيره، وكان يتم العناية بتعليمهن الموسيقى، وكان هذا مما لا خلاف عليه بين الشرق والغرب، ولا زالت كليات المرأة موجودة في السلم التعليمي الأمريكي خاصة لدى الكاثوليك.

مثال آخر، كثيرًا ما نقرأ سخافات يكتبها ملاحدة ساخرون فيها مما نعرفه جميعًا عن سيدنا ورسولنا محمد من أنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فهل كنت تنتظر أن يكون خريج جامعة وتعامله بمعايير عصرك؟ وهل سيدنا إبراهيم عليه السلام مثلًا قد تخرج من السوربون؟ حال محمد كحال إبراهيم ولوط ويحيى وعيسى وكل الأنبياء. هذه ظروف عصورهم فلا تتساخف.

حتى المصطلحات وما تعنيه قد يختلف حسب العصور. شاهدت منذ فترة فيديو يتندر صانعه على كلمة ساقها أحد أئمة الشيعة عن حُرمة أكل الأرنب لأنه قد ورد قول للإمام جعفر الصادق إن الأرنب حشرة!!

لا يعنيني هنا مناقشة الحكم الفقهي لأكل لحم الأرنب، ولكن يعنيني توضيح أن كلمة حشرة كانت تستخدم قديمًا للتدليل على كل هوام الأرض، بينما في عصرنا الحاضر تستخدم للإشارة إلى سداسيات الأرجل فقط، ومن ثم فالأرنب حشرة والفأرة حشرة والذبابة حشرة بمقاييس عصرهم، فافهموا قبل أن تسخروا.

ومن فترة أيضًا قرأت مقالًا طويلًا يسخر فيه أحدهم من قصة تحريم المشائخ قديمًا للقهوة، وأعني بها “قهوة البن”، فذلك المشروب لم يكن معروفًا في بلداننا في العصور القديمة، فلما ورد علينا حرّمه المشائخ هكذا !! ولهذا يسخر الجهلاء.

والقهوة لمن لا يعرف هي اسم من أسماء الخمر، فإن صادفك شعر قديم يذكر فيه الشاعر لفظ “القهوة” فاعلم أنه يتحدث عن الخمر، ولكنه اسم للخمر قد كف الناس عن استعماله، فلما أُدخل البن إلى بلاد العرب انتقى له التجار اسم القهوة! ربما لأنه يؤثر في العقل! فلما سمع المشائخ اسم المشروب الجديد بادروا بتحريمه لظنهم أنه مسكر، إلى أن قام أحد مشائخ موريتانيا بتجريبه على تلاميذه، فوجد أنه لا يُسكر العقل بل ينشطه ويوقظه، فأفتى بحلها لأنها ليست خمرًا وإن تسمت باسمها، ولكن الطريف أن كثيرًا من المشائخ إلى يومنا هذا لا يشربونها رغم عدم تحريمهم لها. فإذا عُرف السبب بطُل العجب، قطعًا لمن يرغب في التحري عن السبب، ويفهم كيف قد يؤدي الاختلاف بين عصر وآخر إلى إساءة الفهم.

وكذا فإن من أهم ما يمكن أن نذكره مما يحدثه اختلاف الزمان هو اختلاف المقبول وفقًا لعصرنا والمقبول إن نظرنا إلى تاريخ أقدم؛ فالفتوحات الإسلامية التي يتفذلك كثيرون في الحديث عنها وتوجيه السهام لها هي أمر مقبول في العصور الوسطى، ولكن هناك من هم مشغولون بنقدها كما لو كانت بدعة في تاريخ البشرية، رغم أن العرب لم يبيدوا سكان أي دولة أدخلوها في سلطانهم أو يهجروهم من ديارهم أو يكرهوهم على دينهم، ولم يعتبروا السكان الأصليين لتلك الدول متأخرين عن الإنسان الحديث تطوريًا كما فُعل بسكان أستراليا الأصليين والأفارقة والهنود الحمر في عصرنا الذي يدعي أبناؤه المدنية، ولكن هناك من يحاكم فتوحات المسلمين تحديدًا دون غيرها بمعايير عصرنا التي لا يطبقها من يتشدقون بها، واسألوا العراق والضربات الاستباقية والبحث عن أسلحة الدمار الشامل.

هذه بعض الأمثلة لبعض الانتقادات المضحكة والأقوال غير الموزونة التي تصدر عمن لا يقدرون قيمة الصمت، فيتحدثون كثيرًا فيما لا يحسنون غير عابئين بمعاناة من يسمع كلامهم الفارغ من أي قيمة ومعنى.

ولا أعني بتسخيف تلك الانتقادات منع حرية النقد، وإنما أعني أن من ينتقد موقفًا بمعزل عن سياقه الزماني قد حكم على كلامه مسبقًا بأنه فارغ. فمن الفروق الجوهرية بين المثقف والمتساخف أن المثقف لا يخلع أي موقف من سياقه ويحاول أن يفهم.

لا تقارن عصرا بعصر، فلكل عصر ظروفه ومقوماته. وكذا لا تقارن مكانا بمكان، فلكل مكان سماته، ولعل لهذا حديثا آخر.