عنف ناعم

في فقرة من فقرات كتاب “ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري” يخبرنا هاروكي موركامي أن مشواره في تعلّم السباحة ابتدأ في سن متأخرة، أحوجته إلى الاستعانة بمعلّم خاص يلقّنه المبادئ الأساسية للسباحة، ثم يعرّج على تجربته الفاشلة مع ثلاثة معلمين ذكور، انتهاء بنجاحه مع مدربة أنثى!

يُرجع السيد موركامي المحترم أسباب فشل أساتذة السباحة في تعليمه إلى المنهجية في التلقين للمبادئ الأولى، التي ما إن يتقنها حتى يضيق ذرعاً بأستاذه فيغيره لآخر، الذي يبدأ بدوره معه من الصفر، بغض النظر عما تعلّمه مع غيره.

هذا هو مبرره الوحيد في فشله مع أبناء جنسه، لكنه لا يخبرنا بتاتا عن سبب نجاحه مع الأنثى، ولا يلفتنا إلى المزيّة التي حُبيت بها هذه المخلوقة عن غيرها، حتى تأهل للمشاركة في عدة مسابقات للسباحة، والتي لم يفز في واحدة منها. لكنّه يعود ليحدّثنا بكل ثقة أن مستواه في العوم في تقدم ملحوظ، رغم أنه لم يحرز أية جوائز في هذه الرياضة.

في كتاب آخر، يحدّثنا الروائي العالمي ماريو بارغاس يوسا عن رهابه الدائم من ركوب الطائرة، الذي يستدفعه باستصحاب كتاب يدفن رأسه بين صفحاته دون أن يطرف، إلى أن تهبط بهم الطائرة في كل مرة.

يحدثتا السيد يوسا، أنه تخلّص من خوفه الدائم الذي لازمه لأمد طويل بسبب محادثة عابرة جادت بها عليه مضيفة طائرة تدعى (ساسو). هذه الساسو كانت ترياقا ناجعا لتخليص صاحبنا من رهابه المزمن، قالت له في نوع من الوداعة والسحر الأنثوي الخلّاب: “إن السفر في الطائرة أكثر أمانا من التنقل على متن السيارة أو القارب أو القطار لأن من يستخدمونها يتعرضون للحوادث بنسبة أكبر كما هو مشاع.”

بهذه الرّقية أو لعلها تكون تعويذة من فم تلك المضيفة (المحتشمة) شفي أديبنا من داء مُعضل زامله لأمد طويل من حياته.

ولنا شواهد كثيرة وقصص عدة مشابهة للقصتين اللتين ذكرتهما، تنمٌُ عن قدرة هائلة مودوعة في هذا الكائن الضعيف، تصيّر إليه زمام كل شيء منذ قِدم العصور.

وتحضرني هنا قصة أوردها أبو محمد جعفر السرّاج القارئ في كتابه “مصارع العشاق” تروي قصّة هارون الرشيد، الملك الذي صار مملوكا، والعزيز الذي أضحى ذليلا، بسبب تولّهه بجارية له، كان يحبها جهد الحب ومنتهاه، وكانت هي تُعرض عنه من شدة بغضها له.. ولا يزيده بغضها إلا صبابة ودنفا لها، حتى ضاقت على الرشيد مذاهبه، فأرسل في طلب شاعره جعفر بن يحيي، وشكى إليه ما يجد، ثم طلب منه أن يرتجل له بيتين شعريين يصفان حاله يتسلى بهما، فقال جعفر مرتجلا:

صَدَّ عنّي إذْ رآني مُفتتن ** وأطال الصّدَّ لمّا أن فطن
كان مملوكي، فأضحى مالكي ** إن هذا من أعاجيب الزّمن

لذلك لا ينبغي لنا أن نعجب أو يأخذنا الدَّهَش في عصرنا إذا وقفنا على صنائع رواد مواقع التواصل الاجتماعي باختلاف أوزانهم العلمية ومكاناتهم الاجتماعية، فإن سحر هذا المخلوق نافذ فيهم، حتى وإن رأيت شخصا تبدو على محياه أمائر الرزانة والنضج ويسبق اسمه حرف الدال، أو يُنعت بالأديب يضحك بطريقة سخيفة على نكتة باردة تلقيها إحداهن في منشور على الفيس بوك، ويُعرض عن دُرر عزَّ نظيرها تجود بها على مشتركيك أو يتفاعل مع تعليقك بإعجاب أزرق بارد يشوبه الصقيع في حين يوزع قلوبه الحمراء بسخاء من لا يخشى انتهاء بينات الاتصال، على بنات حواء، فلا ينبغي لكل هذا أن يستثير كوامنك، ويدعوك للاحتجاج على الأوضاع المزرية التي آلت إليها الحالة الفيسبوكية، فإن الأمور على ما هي عليه من سالف العصور، ويكفيك أن تأخذ العِظة من غيرك، والسعيد من وعظ بغيره.

1xbet casino siteleri bahis siteleri