غرناطة العرب
بعض الأماكن لها سحر جذاب، عندما تطؤها قدماك لأول مرة تشعر بالألفة والانتماء، ويتبادر إلى ذهنك أنك خلقت وترعرعت بين أحضانها. فينشرح صدرك في حضرتها ويبتهج قلبك. وعندما تبتعد عنها، يأسرك الحنين ويوقد فيك نار الشوق، فلا تشعر إلا وقد عدت من جديد لتعانق عبق الماضي وجمال الحاضر…. هذه حكايتي مع غرناطة أو غرناطة العرب كما يحلو لي تسمية محبوبتي ر غم أن ساكنيها عجم.
منذ أن زرتها لأول مرة، ووقعت عيني على مفاتنها أسرني جمالها وبهاؤها، وانبهرت بعراقة ماضيها وطيب أصولها. وتسلل حبها إلى قلبي مع بزوغ خيوط فجر أول يوم لي على أرضها. شمس ربيعها الدافئة أذابت جليد الغربة فلم أشعر أبدا أنني في أرض أجنبية…اجتزت حدودها بجواز سفر وتأشيرة. فالمشاعر والأحاسيس لا تؤمن بالحدود ولا حواجز اللغة والزمان، فهي تعبر الزمان والمكان بكل حرية، وتسافر عبر الحقب والأماكن تتكلم لغة واحدة رغم اختلاف الألسن واللكنات.
غرناطتي التي زرتها، طفلة بريئة، جميلة الطلعة، وضاءة المحيا، متوردة الخدين، عيناها تتلألآن نورا كأنهما زمردتان. شعرها أسود حريري سلسل ينسدل على كتفيها ليصل إل أسفل ظهرها. يزين رقبتها عقد من زهور الرنج ذي رائحة فواحة زكية، ما إن تلامس أنفك حتى تجد نفسك في بستان أندلسي على ضفاف نهر شنيل ترتشف كأس شاي مغربي منسم بالزهر. novibet
ارتدت غرناطة ثوبا غربيا، لكن رغم ذلك ظلت ملامحها العربية بارزة، تلمسها بين أزقة البيازين وبيوته المزينة بالياسمين والورد الدمشقي. تغريك الأزقة وتأخذك إلى الماضي البعيد حيث كان الأجداد يعيشون بحرية، وتشعر أنك انتقلت إلى زمن آخر يتراءى لك أبطال رواية ثلاثية غرناطة، وتبصر طيف رجل وقور مسن ذي لحية بيضاء…إنه أبو جعفر الوراق، ها هو ذا يهم بمغادرة منزله ليلتحق بدكانه في حي الوراقين. خطواته نشيطة وهمة عالية، فدكانه مليء بالمخطوطات القيمة والطلب على نسخ الكتب كثير جدا هذه الأيام. يغادر أبو جعفر منزله وتخرج حفيدته سليمة لتودعه بيديها الصغيرتين، وتطلب منه أن يحضر لها كتابا تقرأه ثم تعود أمام الدار لتلعب مع قريناتها…. آه يا سليمة لو تعلمين ما سيصيبك من شغفك بالكتب، كم تفطر قلبي من أجلك…تواصل المسير في الحي، فتلمح أم حسن برفقة ابنها في طريقهما إلى السوق، فشهر رمضان على الأبواب ولا يخلو بيت غرناطي من حلوى الزلابية التي ابتكرها زرياب في الأندلس كما يقال، تتبعهما لتكتشف بضائع سوق غرناطة.
فجأة، لكن…بدون سابق إنذار يختفي كل شيء وتستفيق على صوت جرس كنيسة سان نيكولاس. تلتفت حولك وتدرك أنك كنت تحلم في وضح النهار، وأنه لا وجود لحسن ولا لأبي جعفر ولا حتى سليمة، وتصاب بخيبة أمل…ترفع رأسك تحدق في السماء الزرقاء، وتغير زاوية نظرك، فتبصر من موقعك قصر الحمراء بلونه الترابي، يتربع بهيبته وشموخه، تحفه البساتين الخضراء من كل جهة ويقف خلفه جبل شُلير أو سييرا نيفادا كما يسمونه الآن، وقد اكتست قمته بلون الثلح الأبيض. فتبدأ في التأمل بإعجاب لهذه اللوحة الفنية المليئة بالألوان والمفعمة بالأحاسيس والمشاعر الجياشة. يمضي الوقت طويلا وعيناك لا تملان من النظر في هذه القطعة الفنية الفريدة بديعة الصنع، ذات حسن وجمال كما وصفت في شعر منقوش على مدخلها. ثم…يتسلل إلى أذنيك صوت خافت على يسارك وبلا مكبر صوت، يردد الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة…إنه الأذان القادم من جامع غرناطة الكبير المجاور لسان نيكولاس. وحينها تدرك أن غرناطة قصة أمة وحضارة، قصة شموخ وكبرياء، قصة نصر وهزيمة، قصة وجود دائم رغم رحيل. وإن كان الرحيل قد وقع، فقد بقي الأثر خالدا شامخا دالا على عظمة من سكنوا الأرض فأبدعوا…