ساحل العاج والذهب والقهوة والكاكاو …

1٬207

أن تقرر زيارة أي بلد أفريقي يستلزم أن تكون مستعدا لوابِلٍ من التساؤلات الفكرية المُقلقة، بخصوص واقع بلدان القارة ومؤشرات مستقبلها. وساحل العاج ليس بالاستثناء الذي يَشذ عن القاعدة؛ فلا بد، وأن تزور هذا البلد الجميل، أن تُحيط بك التساؤلات من كل جانب، في كل تفصيل من تفاصيل زيارتك لها، وهو ما قد يجعل تلك الزيارة، لو كنتَ مبتلًى بالتحليل والتفكير الزائد، أمراً شاقا من الناحية الفكرية.

ولعل أولى هذه التساؤلات هي: لماذا يوجد بلدٌ بهذا الحجم من الفرص الهائلة للاستثمار ولا يَتحول إلى وجهة مفضلة للشباب المغاربة قصد تنفيذ مشاريعهم وتنميتها؟ لماذا ما زال الكثير منهم يفضلون الهجرة إلى أوروبا أو كندا وأمريكا، والعمل في وظائف شاقة لا تكاد توفر لهم إلا لقمة عيشهم في تلك الدول، ولا يُقبلون على الدول الإفريقية التي ما تزال بكراً من الناحية الاقتصادية بكل مجالاتها المختلفة؟ علما أن هذه الدول تبقى في حاجة ماسة إلى الكفاءات المغربية، كما أن النجاح فيها لا يكون مكلفا لوقت كثير أو جهد كبير.

في هذا السياق، كنتُ حريصا على التعرف على المغاربة الذين قدموا إلى هذه الدولة، وخاصة أولئك الذين قضوا عقودا طويلة فيها. وقد نجحت في التعرف على قصة أول مغربي، قدِم إلى دولة ساحل العاج، وكان ذلك في سنة 1956؛ أي قبل انطلاق الرحلات الجوية إلى هذه الدولة، والتي بدأت في حدود سنة 1963. ورغم أن قدومه إليها كان حتى قبل حصولها على الاستقلال في سنة 1960، إلا أنه يبقى متأخرا، بحكم أن الأوروبيين قدِموا إلى هذه الدولة في وقت مبكر جدا، حتى أن المؤرخين يذكرون أن أول قدوم للأوروبيين لساحل العاج كان في سنة 1687، وهو تاريخ بدء إرسال البعثات الفرنسية إلى الدول الأفريقية. وقد بدأ الاحتكاك الأوروبي بهذه الدولة، واستكشافها وتقييم الخيرات التي تتوفر عليها، وتشكيل تجمعات في المناطق التي تتوفر على الذهب، قبل استغلالها ونهب خيراتها في وقت لاحق، والذي بلغ أوجَهُ مع الاستعمار الفعلي الكلي في سنة 1890 للميلاد.

وقد طُبعت المرحلة التي تَلَتْ بداية الاستعمار الذي بدأ في مدينة باصام، التي تُعتبر العاصمة الإدارية آنذاك قبل تغييرها لاحقا، طُبعت بالاستغلال البشع والمدمر لخيرات هذا البلد، وقد استمرت سياسة التدمير لخيرات هذا البلد في مرحلة ما بعد إعلان استقلالها، بحيث إن 80 في المائة من الغابات فيها اختفت منذ سنة 1960 إلى حدود يومه. وتبقى زراعة الكاكاو من أهم ما تتميز به هذه الدولة، فهي تُسهم بحوالي 43 في المائة من صادرات الكاكاو في العالم، بل هي وجمهورية غانا يُسهمان بثلثي صادرات الكاكاو في العالَم. وهي تجارة مدرة بلا شك، بحكم أن الكاكاو يُعتبر مادة أساسية في صناعة كل أنواع الشكولاطة تقريبا، والتي تُقدر أرقام معاملاتها بحوالي مائة وعشرون مليون دولار.

إن وجود مثل هذه الموارد الطبيعية المهمة يُفترَض أن يكون مفيدا لأي دولة تتوفر عليها، إلا أنه يقوم بوظيفة عكسية في ساحل العاج، ذلك أنه بسببه ينقطع ثلث أطفال هذه الدولة عن المدارس، للاشتغال في حقول الكاكاو والقهوة وغيرها. وتذكر بعض الإحصائيات أن عدد هؤلاء الأطفال يبلغ مليون ونصف طفل، 25 في المائة منهم يشتغلون في ظروف سيئة، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على ستة ملايين بالغ. وما يجعل الأمر أكثر سوءا هو أن معظم هؤلاء الأطفال يشتغلون بأجر يقل عن دولار في اليوم، وبعضهم يشتغل مجانا، مقابل مأكله ومشربه، ولساعات تتراوح ما بين ثمانين ساعة إلى مائة ساعة أسبوعيا. وهو وضع مأساوي من غير شك، يَطرح الكثير من الأسئلة عن التقدم الإنساني المزعوم، والذي لا يَكون الإنسان الأفريقي مشمولا به، ويجعل منظومة حقوق الإنسان الحديثة مجرد خرافة، ووسيلة من وسائل الضغط على الدول الضعيفة.

من هذا الجانب، تأتي أهمية تعامل هذه الدول الأفريقية مع دول أخرى صاعدة كالمغرب، لأن مثل التعامل يفيدها في تطوير اقتصادها، وتجويد الظروف الإنسانية للعمل فيها، باعتبار أن التعامل مع المغرب يكون مؤطرا بمبدأ التعاون، وتطبعه الندية وحسن النية. وفضلا عن ذلك، فهو يوفر فرصة كبيرة للتكامل؛ إذ في الوقت الذي توجد فيه كفاءات عالية في المغرب، يتوفر ساحل العاج على فرص هائلة للاستثمار، ومن شأن التعاون بين الدولتين أن يكون مفيدا للغاية للجانبين، وسيقوي العلاقات الوطيدة بين الطرفين.

والحاصل أن هذا كان نموذجا للتساؤلات التي انشغلت بها طوال فترة مكوثي في تلك الدولة، وقد كان استقراري بالضبط في مدينة اسمها اسيني، يقطن فيها حوالي ثمانية عشر ألف نسمة. وهي عبارة عن ثمان مدن صغيرة ساحلية، وقد نزلتُ بالضبط في أسويندي، التي يقطنها حوالي ستة آلاف شخص. وهي تبعُد بحوالي 90 كيلو ميتر على العاصمة أبيدجان، وأسويندي مدينة جميلة للغاية، بشاطئها الرائع، ورمالها البيضاء، ومائها الدافئ. إنها جنة استوائية بحق. وهي أشبه بمدينة الداخلة من حيث موقعها الجغرافي، وإن كانت أكثر جمالا منها.

وأنا أعيش أيامي الأولى في هذه المدينة تساءلتُ: لماذا لا يتم تسويق هذه الطبيعة الخلابة بشكل كافٍ حتى تستطيع أن تجلب السياح إليها من كل أنحاء العالم؟ لماذا يشعر المرء، وهو يبحث عن هذه المدينة في محركات البحث، أن هناك تعتيما على هذه المدينة، بل وعلى خيرات هذا البلد على العموم؟ رغم أنه يقطنها عدة أجانب يملكون منازل وفيلات فخمة، يكتريها السياح القلائل الذين يُقدمون إلى هناك. وعلى كل حال، فقد بقيتُ أياما، وأنا منبهر بجمال هذه المدينة، أتمتع بطقسها الدافئ أحيانا، والساخن أحيانا أخري، وبخيراتها التي تباع بأثمنة زهيدة. ظللت على تلك الحال لعدة أيام، أقضي معظم الوقت في البحر. وأي شيء أفضل من ذلك؟

لكن، ككل شخص مصاب بالتفكير الزائد، أُسائلني أحيانا: هل أقوم بتضييع وقتي؟ هل أستثمر رحلتي كما يجب؟ وسرعان ما أغض الطرف عن الجواب، حين أنظر حولي وألحظ الأفارقة الآخرين مثلي، يجلسون لوقت طويل، دون أن يقوموا بأي شيء. إنهم يُفضُون إليك برسالة مُفادها: “هذه طبيعة الحياة، وهكذا ينبغي أن تُعاش”. لا شيءَ يُبرر أن يُحمل المرء نفسه ما لا يُطيق من هموم الدنيا. وأن ترتاحَ وتطمئن، منزلةٌ بليغة تستحق أن تعاش بكل تفاصيلها.