التجربة الكونغولية (٣): مغاربة الكونغو … الغربة تَجمَع!

2٬130

في مسار حياتنا الممتد، غالبا ما يكون هناك أشخاص بجانبنا ندين لهم بالفضل في كون حياتنا أقل صعوبة من المتوقع. قد ندرك هذا الأمر في الحال وقد لا ندركه؛ لكن لو تأمل كل واحد منا جيدا لوجد أن هناك دوما من يخفف عليه متاعب الحياة، أو على الأقل يضفي معنى على تعبه ويحفزه على الاستمرار رغم المشاق. قد يتمثل هذا الشخص في زوج أو زوجة، أو ابن أو بنت، أو أب وأم، أو صديق أو جار أو زميل في العمل؛ أو ربما في غريب يلتقيه صدفة في سوق ممتازة. المثير للدهشة أن هذا الشخص الذي ينطبق عليه هذا الوصف، قد لا يشعر أنه يقوم بهذا الدور الهام في حياتنا، بل بالعكس من ذلك، قد يشعر أنه إنما يقوم بواجبه، في حين أنه يحمل عنك حملا ثقيلا، وتعبا جليلا. وذلكم من حكمة الله تعالى في جـعْل الناسِ بعضهم لبعضٍ سخريا، دون أن يشعروا بذلك رفعا للحرج والتكلف فيما بينهم.

وحين تكون غريبا، بعيدا عن أهلك وبلدك، تشتد حاجتك إلى معين يذلل لك ما صعُب، ويُقرب منك ما بعُد؛ فبعد أن وصلنا إلى العاصمة كينشاسا، كان توجهنا صوب مدينة لومومباشي، العاصمة الاقتصادية للكونغو، عبر رحلة جوية، لتكون مركزا للعمليات التي أتينا من أجلها. ولومومباشي هي ثاني أكبر مدينة في الكونغو، تبعد عن العاصمة كينشاسا بألفين وخمسمائة كيلو متر، وتقع في منطقة أوطاكنغا. وحين تنزل في مدينة كبيرة، بكثافة سكانية كبيرة جدا، في أوساط ثقافية غير مألوفة بالنسبة لك، لا بد أنك ستعاني في البداية.

‎وبعد استقرارنا بهذه المدينة، تمكنا من التعرف على بعض الجراحين الذين يشتغلون في بلدان أجنبية، من ذوي الأصول الكونغولية، منهم أطباء متخصصون في المسالك البولية ومتخصصون في جراحة الدماغ. وكنا نلتقيهم باستمرار في أوقات تناول الوجبات، وفيها نتجاذب أطراف الحديث ونتبادل الآراء والتجارب والخبرات، كل في مجال اختصاصه. وبحكم أنهم كونغوليون في الأصل، فإنهم لا يجدون أي مشكلات مع الطبخ الكونغولي، حيث كانوا يُقبلون على الوجبات الكونغولية بشهية مفتوحة. وفي المقابل، لم تكن المأكولات الكونغولية بتلك الجاذبية التي ستحملنا على الاستمتاع بها، ورغم أننا بذلنا جهدنا وأكلناها فعلا في أول وجبة، تفاديا للإحراج، لكن لم يكن ممكنا أن يستمر ذلك الوضع، لأن إقامتنا سوف تطول نسبيا، ونحتاج أن نكون في قمة تركيزنا ونحن نجري العمليات، لذلك كانت المسألة الغذائية ضرورية جدا.

‎وقد كان لزاما علينا أن نجد حلا لمشكلة التغذية، لأن المطبخ الكونغولي لم يلائمنا على الإطلاق. من بين الأكلات الرئيسية هناك أكلة الفوفو، وهي عبارة عن معجنات بمثابة الخبز عندنا، تؤكل في كل الوجبات تقريبا، تستخرج من بذور شجرة المانيوك. ومن أشهر الأكلات أيضا أكلة البوندو، وهي تستخرج من أوراق المانيوك بعد أن يتم طحنها. والكونغوليون يستهلكون السمك كثيرا، إلا أن لهم طريقة خاصة في تحضيره، حيث يقومون بطحنه وتمليحه بشكل يشبه القديد عندنا، وهو ما يجعله وكأنه محوّل إلى شيء آخر، ويُفقده كثيرا من لذته، وربما من قيمته الغذائية أيضا.

هذا الوضع جعلنا مضطرين لأن نتكلف بالوجبات التي نتناولها، حيث نقوم بطبخ ما نأكله بأنفسنا. وأقدّر أن المغاربة يواجهون مشكلة عدم القدرة على التكيف مع الأطعمة الأجنبية بشكل مستمر عندما يسافرون إلى الخارج؛ ذلك أن الطبخ المغربي هو بحق لذيذ، والمطبخ المغربي يتميز عن مطبخ باقي الدول بشكل ملحوظ للغاية، ويصعب الانفكاك عنه، وتعويضه بغيره. فالتأقلم مع الأكلات الأجنبية هو أمر صعب على العموم، ومع الأكلات الإفريقية بشكل خاص. مع أنني في الواقع، شخصيا أحب المأكولات الأسيوية، أو الكثير منها، وهي مستثناة من هذا الحكم.

وفي الواقع، لستُ شخصا متطلبا في الأكل، ولست انتقائيا بشكل كبير؛ ففي المغرب مثلا، لا أكاد أذكر وجبة مشهورة لا آكلها، ويمكن القول إنني آكل كل الأكلات المتداولة في المطبخ المغربي. ورغم ذلك لم تنفتح شهيتي للمأكلولات الكونغولية، فما بالك بالشخص الذي يكون متطلبا وانتقائيا أصلا في أكله. وعلى العموم، فقد كنا نذهب للتبضع من السوق الممتازة، وتحضير المواد التي نتناولها، سواء منها التي تقتضي الطبخ، أو التي تستهلك كما هي بدون طبخ، وكما سبق أن بينت، فهناك غلاء كبير في الأسعار، لدرجة أن كيلو واحد من اللحم يصل سعره إلى 13,75 دولار ولِتر من الحليب بدولارين اثنين على سبيل المثال.

ولحسن حظنا، ففي أول زيارة لنا لأحد الأسواق الممتازة الكبيرة بلومومباشي، التقينا بمواطن مغربي اسمه عزيز، يقيم في المدينة هناك، وكان التعرف عليه حاسما في إقامتنا في الكونغو، ومثّل اللقاء به لحظة مفصلية في رحلتنا، لدرجة أن تقييم هذه الرحلة يمكن التمييز فيه بين فترتين، فترة ما قبل اللقاء بـ عزيز، وفترة ما بعد اللقاء به. واللقاء بمواطن مغربي لا تعرفه هناك هو أمر نادر الوقوع جدا، بل يكاد يكون من المستحيلات، ذلك أن المغاربة قلة قليلة جدا في الكونغو، كما أن المدينة كبيرة جدا، وهو ما يجعل اللقاء بشخص تعرفه أمر صعب للغاية، فما الظن بشخص لا تعرفه أصلا.

وعزيز هو أحد المتابعين لي على الإنستغرام، استطاع التعرف علي لما رآني هناك. ومن حسن الحظ أنه شخص منفتح ذو مهارات تواصلية جيدة، بحيث إنه بمجرد أن رآني أقبل علينا يحيينا ويتعرف علينا، ويستفسرنا عن سبب وجودنا في هذا البلد النائي جدا. ولأن الغربة تجمع، فقد أصبح هذا الشخص صديقا لنا، وكان له علينا فضل كبير، لا يمكن نسيانه، لقد جعل رحلتنا وحياتنا هناك سهلة للغاية، لدرجة أنه تكلف بتحضير الأكل لنا مدة بقائنا هناك، وهو عبارة عن أكلات لبنانية غالبا. وأي شيء كنا نحتاجه يذلل لنا الصعوبات للحصول عليه. ويقينا، إنه لولا تعرفنا على عزيز، لكانت رحلتنا شاقة للغاية، إذ كنا سنواجه مشكلات لا تحصى للتكيف والتأقلم، وربما اضطررنا إلى التعجيل بالعودة إلى الوطن، قبل زمن العودة المقرر.

بعد قضاء عدة أيام، انتابنا ملل كبير، لأننا كنا نقضي الوقت كله في المستشفى والعودة مباشرة إلى مكان إقامتنا، من غير أن نكسر هذا الروتين بأي نشاط آخر. لكن تعرفنا على عزيز كان دليلا لنا للتعرف على بعض الأماكن التي يمكن زيارتها، والتي نستطيع أن نرتاح فيها ولو قليلا، وهو ما كان. فبفضل تعرفنا على عزيز، تعرفت على بعض الأماكن التي يذهب إليها صفوة الناس في لومومباشي، وهي أماكن محصنة، لا يذهب إليها إلا الطبقات الراقية في المدينة، تضم مقاهي ومطاعم وبعض المحلات الترفيهية والرياضية. واستطعت أن أقوم ببعض الحصص الرياضية، وإن كانت تكلفتها عالية بالمقارنة مع جودة الخدمات التي توفرها.

غير أن الهاجس الأمني كان حاضرا دوما، وهو ما يُــحِدُّ ويُقلص من هذه الأنشطة التي يمكننا القيام بها للترويح عن النفس. ورغم أنني لا أتوفر على معطيات دقيقة بخصوص الحالة الأمنية في هذا البلد، إلا أنني كنت أحتاط كثيرا، خاصة بعد محاولة أحد المواطنين الكونغوليين أخذ هاتفي في إحدى المرات، مدعيا أنه رجل شرطة، وأن القانون يمنع علي أن أقوم بالتصوير، وقد تمكنت من استرجاعه في الحين، بعد نقاش صاخب معه، أبنتُ فيه أنني مستعد للذهاب بالأمر إلى أبعد مدى، وأنني لست خائفا من أي شيء، ذلك أنني ضيف هنا بطلب من عامل المدينة شخصيا، فلما علم بالأمر تراجع عن مشروعه الإجرامي وانصرف. وقد عرفت من الحديث إلى أحد المواطنين الكونغوليين كان يتقن الإنجليزية أن ذلك الشرطي، إذا صح أنه شرطي، إنما يريد أن يأخذ مني بعض المال، في إطار الفساد المستشري هناك. ومنذ تلك الحادثة أصبحت أحتاط من الخروج من غير ضرورة، خاصة أنني أحمل دائما النقود وجواز سفري والهاتف معي. ولأجل ذلك لم أقم بأي مغامرات استكشافية هناك، واكتفيت بالمهمة الأساسية التي جئت من أجلها، طلبا للسلامة.

السائح العربي الذي يزور الكونغو من أهم ما سيلحظه هو الوجود الكثيف للجالية اللبنانية، والتي تحترف التجارة والخدمات هناك، وخاصة في مجال الأطعمة والأشربة، حتى أننا منذ أن تعرفنا على عزيز لم نعد نأكل إلا الأكلات اللبنانية. واللبنانيون لهم مهارات وإبداعات جيدة في الطبخ. وحضورهم في الكونغو وخاصة في العاصمة الاقتصادية لومومباشي، ربما يعود ذلك إلى الحس التجاري الذي يميزهم، والذي أخذوه من أصلهم الفينيقي، الذين عرفوا بالتجارة. فاللبناني شخص يتكيف بسرعة في أي محيط تضعه فيه، وهو يستطيع بسرعة فائقة التأسيس لمشروع تجاري يدر عليه دخلا.

حين لاحظت هذا الوجود اللبناني الكبير في هذا البلد النائي جدا، تساءلت في نفسي: لماذا لا يفعل المغاربة الشيء ذاته؟ مع أننا أقرب إلى هذه البلدان، التي تزخر بالفرص، وتجمعنا بهم قارة واحدة، وقضايا وتحديات مشتركة، وهو ما يتيح للمغربي الذكي الطموح إمكانية أن ينجح في هذه البلدان أكثر من أي شخص آخر من دولة أخرى.

وبطبيعة الحال، يصعب الإجابة على مثل هذا السؤال، لأنه يحتاج إلى الكثير من المعطيات ودراسة الكثير من الأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، بل والسياسية أيضا التي تحكم سلوك وقرارات المواطن المغربي في الميدان الاقتصادي. لكن يمكن القول إجمالا بأننا ما زلنا نعاني بشكل كبير من غياب حس المبادرة والإبداع في اتخاذ القرارات الاقتصادية على مستوى الأفراد. والإمكانات الاقتصادية التي يوفرها لنا الموقع الجغرافي الاستراتيجي لبلادنا لا يتم استثمارها بشكل فعّال وكافٍ وناجع من قبل الأفراد، وهو ما يجعل حياتهم بطيئة جدا، ولا تتطور بالشكل المطلوب. فتجد الشخص إن كان فقيرا يظل فقيرا، وإن كان من الطبقة المتوسطة ظل متوسطا، وإن كان غنيا ربما افتقر! وهذا يدلك على غياب الخبرة الاستثمارية وقلة الطموح المؤسس لدى أغلب المواطنين.

وفي إقامتنا هنا في لومومباشي، كان من الأشياء التي لفتت انتباهي بشكل كبير جدا هو أننا لم نكن نعرف متى يبدأ عملنا بالضبط كل يوم، بسبب أن مفهوم الوقت غائب تماماً في الأوساط الكونغولية. ففي صبيحة كل يوم، نأتي مبكرا إلى المستشفى، لنتفاجأ بأن المستشفى يكاد يكون فارغا تماما من الموظفين. كما أن هناك بطئا شديدا في تقديم الخدمات؛ فالمريض الذي نحتاج إلى عشر دقائق لتهييئه لإجراء العملية له في المغرب، قد يأخذ الأمر ساعة ونصفا هناك.
‎بالإضافة إلى ذلك، هناك ضعف شديد في الإمكانيات والمعدات، حيث إن معظم الآلات معطلة، بل إن الأصل فيها أن تكون معطلة حتى يثبت العكس، ولذلك أنت تحتاج إلى التأكد من كونها تشتغل في كل وقت، قبل الإقدام على أي إجراء. هذا، فضلا عن أن هذه الآلات تعود إلى عقود من القرن الماضي، تجاوزتها البشرية والتطور الطبي اليوم، فإذا كنا نستعمل في المغرب، وهو بلد نامٍ، في الجراحة بالمنظار تلفاز بجودة عالية HD، تبين بوضوح ما يوجد في جسم المريض، فإن التلفاز الذي كنا نستعمله في الكونغو أقرب إلى جودة الأسود والأبيض منه إلى ما ذكر. حتى أننا داخل الفريق الطبي فكرنا جديا في أننا إذا عدنا مرة ثانية إلى هذا البلد في حملة مشابهة، سوف نأتي معنا بكل الآلات والمعدات التي سنحتاجها في عملنا، وهذا أمر يمكن أن يتيسر إن شاء الله.

ومما زاد الطين بلة، أن الإجراءات الإدارية أيضا تتميز ببطء كبير جدا، إذ كنا نحتاج إلى ثلاث ساعات من التوقف بين انتهاء عملية وبدء عملية أخرى، وذلك في الحالة التي لا تنقطع فيها الكهرباء، أما لو انقطعت الكهرباء فالأمر يحتاج إلى وقت أطول، وهي تنقطع باستمرار، والأمر نفسه ينطبق على الماء. وقد كنا نستعمل الصابون العادي والمقاريج لتعقيم أيادينا، لأنه لا توجد صنابير ومعقمات متطورة، كما أن الأطر البشرية، ومن أسف شديد، غير مكونة تكوينا جيدا ولا كافيا، بما في ذلك الأطباء المقيمين. وكما هو معلوم، فالجراحة أمرها خطير، تتطلب تكويناً متخصصا بشكل كافٍ، لأنها تصرف في أجساد الناس، والخطأ فيها نتائجه لا تخلو من أحد أمرين، إما أن تكون قاتلة أو يكون ضررها مستديما ومزمنا.

حين وقفت على هذه الوضعية، هالني الأمر، ولم أستطع تبريرها، وإيجاد تفسير لما يعيشه هذا الشعب. هل منشأ الأمر يعود إلى غياب الإمكانيات، وهذا أمر مستبعد، باعتبار الموارد الطبيعية الهائلة التي تتوفر عليها الدولة، وإما أن الكسل قد استبد بهذا الشعب، وأصبح خصيصة لهم، وبالتالي لا يثير لديهم هذا الواقع أي إشكال. فمن يزور هذه الدولة يشعر وكأن هناك نوعا من التطبيع الكلي من طرف كل فئات المجتمع مع هذا الوضع، لدرجة أنه لا يبدو لهم بذلك السوء الذي نراه عليه، ولذلك فليست هناك من حاجة إلى التغيير أصلا. وكما هو مقرر، فالأهم دوما هو ما نضفيه على الأشياء من المعاني، وليست الأشياء في حد ذاتها. فموقفٌ واحدٌ يمكن أن يوجد فيه شخصان، لكن ما يعنيه لأحدهما هو غير ما يعنيه للشخص الآخر.

فإذا أمعنت النظر في سلوك هذا الشعب ستجد أن هناك استرخاء عاما في البلاد، وبرودا سلبيا جدا في التعامل مع الأوضاع الجادة والمحرجة. وهو ما يجعل تغيير هذه الأوضاع بحاجة إلى إرادة فولاذية، وهو ما سيستغرق وقتا طويلا، من غير شك. هذا لو وُجد من يحاول الإصلاح، لأنني لم ألاحظ أن هناك تدافعا في هذا الاتجاه، رغم أن الوقت الذي قضيته هناك يظل قصيرا، ولا يسمح لي ببناء تصور مؤسس عن هذا الموضوع، موضوع السعي إلى الإصلاح والتغيير. والأكيد أن هناك حاجة إلى ثورة ثقافية جذرية، تقطع مع السلوكيات القائمة الآن، التي تتطبع مع الكسل والفساد والرضى بالأقل من الحد الأدنى من الممكن.

ومما ميز رحلتنا إلى هذه الدولة، أنها تزامنت مع مباراة الذهاب لمنتخب المغرب مع المنتخب الكونغولي، في إطار تصفيات كأس العالم، وهي المباراة التي انتهت بالتعادل الإيجابي، هدف لكل فريق، وقد شاهدتها في المستشفى الذي كنا نشتغل فيه، حيث وضعت شاشة كبيرة لهذا الغرض. وقد فاجأني أن الكونغوليين تابعوا المباراة ببرود مستفز، لا يصرخون كثيرا، لا ينفعلون، لا يغضبون عند تضييع فرصة معينة قد تكون حاسمة في التأهل، وغير ذلك. يمكن أن تقول: إنهم بخلافنا تماما. ففي الوقت الذي يكون منتخبهم تحت الضغط، ومعرضا لاستقبال الهدف في أي لحظة، تجدهم يضحكون بشكل عادي وطبيعي. وعندما تنتهي المباراة ينصرفون وكأن شيئا لم يحدث. هل الأمر يتعلق بضعف الشغف الكروي لديهم، أو قلة الحماسة وضعف التعلق بالوطن، أو لأن طباع الهدوء والبرود في التعامل مركوزة فيهم؛ كلها احتمالات ممكنة، جائز أن يتم تفسير الأمر بها. وقد لاحظت هذا الأمر أيضا في المباراة الثانية بعد أن تم إقصاؤهم، إذ لم يقوموا بأي رد فعل، وكأنهم توقعوا مستقبلا أن هذا الذي سيحصل.

وانطلاقا من ردود أفعاله، تدرك أن الأنا عند المواطن الكونغولي خافتة وباهتة، لا تظهر كثيرا في المنافسات مع الغير. ومع أن الكثير منهم في تعامله معك قد تشعر أنه يتحيل أو يحاول أن يستغفلك، وربما يعاملك بمكر، لكن في مقابل ذلك تجد أنهم ما زالت طباعهم وسلوكاتهم ممزوجة ببعض السذاجة، وربما يكون هذا سببا من أسباب كونهم ضحايا الاستغلال والاستعمار. فالمستعمر لا يجد فيهم تلك المقاومة وذلك الكبرياء الذي يمكن أن يحملهم على التصدي له. ولا شك أن هذا أفضل ما يبحث عنه الإنسان الغربي الرأسمالي الذي يدفعه الشعور بالتفوق العرقي، والسعي إلى السيطرة وتسخير العالم لمصلحته الخالصة. فوارد جدا أن يكون هذا من أسباب هذا الاستغلال، لأن الطبيعة الفكرية والثقافية لهذه الشعوب تنزع إلى قبول مثل هذا التصرفات التي يكون عرضةً لها. وبطبيعة الحال، بالإضافة إلى التفوق العسكري والتكنولوجي اللذان يتممان هذه العوامل.

إن إمعان النظر والتفكير الملي في الوضع ببعض بلدان أفريقيا يكشفان عن حجم الفرص الكبيرة التي تزخر بها هذه البلدان؛ ففي أي مجال توجهت إليه ستجد أنه يعاني خصاصا كبيرا، وتخلفا مستديما، وهو ما يوفر فرصا كبيرة للاستثمار للشباب المغاربة، لو صح منهم العزم، وأقبلوا على هذه السوق الواعدة جدا، واستغلوا العلاقات الديبلوماسية الجيدة التي تربط بلادنا بهذه البلدان. ولا شك أن المدخل الاقتصادي هو الأهم من بين مداخل أخرى لتعزيز الوجود المغربي في بلدان القارة الأفريقية، ومن ثم دفع هذه البلدان إلى الاصطفاف بجانب المغرب في قضاياه الكبرى، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية للمملكة.

كما أن التأمل في وضعية هذا البلد يُبرز من جهة أخرى كيف أن هذه القارة سوف تظل من أضعف القارات التي لا تأثير كبير لها على مستوى العالم، بسبب الضعف الشديد التي تعرفه دولها. ومن أسف، ليست هناك مؤشرات دالة وحقيقية يمكن الاعتماد عليها للقول بأن هذا الوضع قريب الانتهاء أو التغير؛ فهناك انصهار وتطبيع تامان مع هذه الوضعية المتخلفة. وبديهي أنك إذا كنت لا ترى المشكلة قائمةً فمن المتعذر أن تجد لها حلا؛ فالظلم لوحده لا يدفع الشعوب إلى أن تهب للتغيير، إنما الإحساس بالظلم هو الذي يقوم بهذا الدور؛ فطالما أن هناكَ انسجاما وانصهارا وتطبيعا مع الوضع القائم، ستظل فرص التغيير منعدمةً إلى حين. وهو ما يلزم عنه بالضرورة أن هذا الوضع سيستمر لوقت طويل في المستقبل.‎