في زمن كورونا

فجأة أجد نفسي محصورا بين حيطان البيت، فجأة أصبحت أرى المرض يجتاح المغرب والعالم، أهي صدمة تلك أم صفعة أحسست بها عندما قيل لي: “لا دراسة بعد الآن، عد لبيتك إلى أجل غير معلوم.”، ذلك الشعور الغريب الذي انتابني عندما فهمت أن الامر لم يعد مزحة تثير ضحك السامعين، بل صارت حقيقة زادت قناعتي بها عندما رأيت سيارات الجيش تجوب شوارع مدينتي لفرض الحجر الصحي بالبيوت.

فعجبا، كيف أن هذا الميكروب الواحد أوقف حركة أكبر وأقوى شعوب العالم، كيف أنه حصر الملوك في قصورهم، وجمد حركة الاقتصاد العالمي، وأثبت للبشرية أنه لا زال الكثير أمامها لتتطور. وغريب كيف أن الإنسان أصبح يقف الآن على ناصية البقاء ويقاتل بشراسة في حرب من أجل العودة لروتينه اليومي الذي كان يصفه قِدماً بالـ “ملل”.

فعندما نكون بصحة جيدة نعيش حالة نظام، وهي حالة يمكن التنبؤ فيها بالأشياء، إذ نعرف ما سيحدث اليوم، وغدا، وبعد غد، إلى درجة أننا نصنع جدولا أسبوعيا يصبح فيه معه النظام مملا.

ولعل من مزايا هذا الوباء، التذكير بنعمة هذا النظام “الممل” الذي نشتكي منه طول الوقت…نشتكي من رتابة الحياة، من الملل، من إعادة الأعمال مرات ومرات، إلى أن نباغت بالمرض أو الفوضى أو الحالة التي لا يمكن التنبؤ فيها بالأشياء، ولا معرفة ماذا سيحدث اليوم وغدا أو بعد غد، وهل ستسوء حالتنا أم ستتحسن أم سنموت وندفن بدون جنازة؟ فندرك حينها أهمية النظام وتكلفة الملل الذي يصاحبه!

تتحول شخصيتنا وأجسامنا بشكل كبير عندما نتصل بالفوضى، عندما يخاف الناس من المجاعة وقلة الأدوية، كن على يقين أخي القارئ أنك سترى أكثر الناس تحضرا ورزانة على أتم الاستعذاد للقتل والاقتتال من أجل الحياة، حين لا نبقى محكومين بالأخلاق والمجاملة ،وحين لا نبقى محكومين بإلقاء تحية الصباح على أشخاص لا نحبهم أصلا، حين تغيب الإيديولوجيا التي تفرض علينا أن نتصرف بسوية وإلا سيتم نبذنا من المجتمع، وحين ستغض عين القانون طرفها ولو لثانية واحدة، أنا متأكد أنه سيحدت أكبر سقوط للأقنعة البشرية ليظهر جانبنا الوحشي النرجسي، وهو الأمر الذي يسميه عالم النفس
Carl Jung بـمفهوم: “إسقاط الظل—Projection of Shadow”
فقط في حالات كهذه، حين يفتح لنا باب التفكير في علم طبيعتنا التفاعلية مع الحياة، مع مجرياتها ومع ما سيكون عليه كل ما هو آت، حين نعلم حقا من نحن كبشر.

مقالات مرتبطة

لا أحد يتمنى المرض، ولكن إذا نزل القضاء وضاق الفضاء وبقي الإنسان سجين جسمه المنهك، فما للمرضى حينها من سبيل للخروج من هذه الفوضى التي ألمت بأجسامهم سوى الرضى بالعدالة الإلهية، فالذي يعطي لسنوات هو الذي يأخد لأيام.

جميل كيف أن الوباء أظهر للعالم، دونية الحاجة للمغنيين والفنانين ونجوم كرة القدم الذين لطالما تهافت الإعلام حولهم والجماهير، وكيف أن المنقذ الوحيد للبشرية اليوم هو العلوم بما فيها من أطباء وباحثين.

وجميل كيف أن مرض كورونا كشف عن بصرنا غطاء دونية المظاهر، فأصبح الفقير والغني سواسية أمام الموت، فكورونا لا تهتم بجاهك، أو نوع جواز سفرك أو نوع سيارتك، إنه مرض عادل، يقتل البشر بإنصاف، وأن الطبيعة لا تهتم بأشيائك أو حالتك الفيزيولوجية، وأن الفقير المجهول في الأرض، ربما قد يكون مشهورا في السماء.

علّمت كورونا الحكومات العربية درسا قاسياً، وهو أن أكبر عدو لنا ليس هو المرض بحد ذاته، بل الجهل الذي جعل شريحة من المجتمع ترفض اتباع خطوات الحجر الصحي، وأخرج فئة من هذه الشريحة بالتهليل والتكبير في شوارع المدن في عدة بلدان عربية، ليقيموا ولأول مرة في تاريخ البشرية بمظاهرة ضد فيروس!

كل هاته الأحداث المصيرية كشفت الستار عن خطورة الأمية في مجتمعاتنا، وخطورة ما قد تنتجه إذا ما انصهرت في بوتقة الدين. وهو المشكل الذي لا يمكن القضاء عليه في أسبوع، أو شهر أو سنة، بل إن التدريس والاستثمار المتواصل في قطاع التعليم -وهو السبيل الوحيد للنهوض بمس توى ثقافة المواطن- قد يستغرق قرونا لتظهر نتائجه.

وإنه لأمر محزن أن أرى الناس يشتكون من الملل والتذمر من الضجر المصاحب للحجر الصحي، الذي أرى صراحة أنه أفضل فرصة للاعتكاف ومحاسبة الذات، وأفضل فرصة لتصحيح حماقاتنا وإعاذة النظر في كل الأخطاء التي ارتكبناها سابقا، وأفضل فرصة للاتصال الهاتفي بالأقارب والأحباب، والتسامح مع الأشخاص.

إن كورونا هي أفضل وقت للتغيير يا إخوتي، في حال ما إذا أعطتنا المحكمة الإلهية فرصة ثانية لذلك.