كوابح تحقيق الذات

تحقيق الذات، كلمة رنانة تقرع كثيراً على أسماعنا، لكننا لم نقف يوما ما وقفة مع أنفسنا للتساؤل عن العقبات والعوائق التي تقف حجرة عثرة في طريقنا للوصول إلى شاطئ تحقيق الذات؟

ارتبط مفهوم تحقيق الذات في الحقل السيكولوجي بإبراهام ماسلو صاحب الهرم المعروف، هو الذي جعل تحقيق الذات على عرش الهرم بعد أن يتمكن الإنسان من إشباع حاجاته الفيزيولوجية من أكل، وشرب، ولباس ونوم وحاجات الحماية والأمن، ثم حاجات الانتماء والحب، وحاجات الاحترام والتقدير، وحسب ماسلو فإن تحقيق الذات يعني أن يتمكن الفرد من استخدام إمكاناته وقدراته حتى يصل إلى الحالة التي يرغب في أن يكون عليها، فتحقيق الذات باختصار هو الطاقة الدافعة نحو الإبداع والابتكار.
قام ماسلو باستخلاص مجموعة من الخصائص التي تميز الأشخاص المحققين لذواتهم من خلال دراسة علمية لشخصيات عديدة منها: توماس جيفرسون، وإينشتاين، ووليم جيمس، وسبينوزا، ومن هذا وصل إلى عدة سمات منها:

  • إدراك الواقع بشكل جيد، فالذي لا يفقه الواقع يعيش خارج التاريخ.
  • تقبل الذات والآخرين.
  • التلقائية والاستقلالية ومقاومة التنميط، حيث يتم التعبير عن النفس بصراحة بدون تصنع أو طلب رضى الناس.
  • قوة التركيز والإتقان.
  • الغنى في المشاعر، من دون جفاف عاطفي بل يعبرون عما يشعرون به دون مركب نقص.
  • أصحاب علاقات اجتماعية هادفة، يبتعدون عن المحبطين والمفلسين ويصاحبون الناجحين والمبادرين.
  • الابتكار والتفكير خارج الصندوق.

إن الوصول إلى تحقيق الذات هو مطلب كل إنسان سوي يحترم إنسانيته، ويعد من الحاجات الإنسانية العليا التي تحتاج إلى مجهودات جبارة للوصول إليها، ومن هذا المنطلق يمكن أن نُرجع العقبات التي تقف حائلاً أمام تحقيق ذواتنا إلى عائقين بارزين:

أولا: العوائق النفسية: كالتعالي، وسوء الظن، والخوف سواء من الآخر أو من النقد، والاستهزاء، إضافة إلى ضعف تقدير الذات الذي يؤدي بالضرورة إلى ضعف الثقة بالنفس، ولا شك أن ضعف الثقة بالنفس يولد اضطرابات نفسية تمنع الإنسان من الإقدام والإنجاز و الإبداع.

ثانيا: العوائق الفكرية: وهذه يمكن أن تكون على نوعين: فهناك عوائق ذاتية كبعض المعتقدات التي يحملها الإنسان والتي تبين فسادها أو عدم جداوها؛ كالتعلل بالقدر والتواكل ونحو ذلك من المفاهيم التي تبلورت في ذهن الفرد عن طريق فهمٍ معوج للدين. في المقابل، نجد عوائق خارجية كالأشياء التي نتشربها من ثقافة المجتمع وعاداته والتي قد تحوي خزعبلات وخرافات كثيرة تحتاج إلى غربلة وتمحيص، حيث تشكل ما يعرف بـ “العقلية” Mindset التي تساهم بشكل كبير إما في ارتقاء الفرد وبروزه أو في اندحاره ونكوصه.

مقالات مرتبطة

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكننا تجاوز هذه العوائق؟
تجاوز هذه العوائق ليس أمراً سهلاً ولا يستطيعه كل أحد، وذلك راجع إلى كون هذه المعيقات متداخلة ومتشابكة ومرتبطة بالبيئة الاجتماعية التي ترعرع فيها الفرد، كما أنها مرتبطة بالمستوى الثقافي للأسرة ووعي الأبوين، فالطفل الذي ينشأ وسط بيئة تشجع على القمع والخضوع ومحاربة حرية التعبير والرأي، لا شك أنه ستتكون لديه جملة من العُقد النفسية التي يصعب عليه إزاحتها مستقبلا، وقد نص علماء النفس على أن شخصية الطفل تتشكل في الخمس سنوات الأولى من حياته.

أما المجتمع فله تأثير كبير على تشكيل التصورات والرؤى، فإذا كان المجتمع غارقا في الفكر الخرافي الذي ليس عليه دليل شرعي أو برهان علمي أو سند عقلي؛ فلا شك أن الفرد ستتكون لديه مجموعة من المعتقدات الفاسدة التي ستؤثر على سلوكه، وبالتالي ستقف سداً منيعاً أمام تحقيق الذات، كما أن الفهم الخاطئ للدين يمكن أن يشكل عائقا فكريا خطيرا مغلفا بغلاف القداسة، فالدين يُفهم بأدوات وضوابط ومن فاته ذلك سيقع في المحظور حتما إما تميعاً وتحلالاً وإما تطرفاً وغلواً، وكلاهما شرٌ مستطير.

يمكن أن نلخص الحل في كلمتين هما: العلم و العمل؛ فالإنسان الذي لا يقرأ ولا يستثمر في بناء نفسه سيسلم ذاته حتما إلى الجهل، وبمعول العلم سنتمكن من هدم العقبات الفكرية، التي تؤثر تأثيراً بليغاً على الفرد لأنها تتحول إلى عادات ثم سلوكات، وكلما اتسع أفق الإنسان معرفيا وثقافيا كلما ارتقى بحياته إلى نحو أفضل وأجود، ولا يتذوق هذا إلا من يعتبر القراءة من الأساسيات لا من الزخرفيات والكماليات.

أما العمل فيأتي بعد المعرفة؛ لأن الإنسان لا يستطيع التحليق بدون أجنحة، وهذا العمل يكون على الذات بتقبلها كما هي، وتقديرها، واحترامها، ففي الأول والأخير الله أوجدني هكذا فإذا لم أتقبل ذاتي ولم أحترمها فكيف أنتظر هذا من الآخرين؟

بعد هذا يأتي العمل على تزكية النفس وتطهيرها عن طريق التخلص من الآفات القلبية كالحسد، والحقد، والبغض والتعالي، فلا يمكن للإنسان أن يحقق ذاته وقلبه يتقطر حسداً من نجاح الآخرين، فقد قال هيجل: “الحسد أغبى الرذائل إطلاقا، فإنه لا يعود على صاحبه بأية فائدة”. إضافة إلى هذا، هناك أمر مهم آخر وهو تحطيم شبح ثقيل يجثم على القلوب وذلك يتجلى في الخوف، الذي منعنا مراراً من أن نقوم بأشياء نحبها ونجيدها بسبب نظرة الآخرين وكلامهم وانتقاصهم أو استهزائهم، والخوف يكمن دواؤه ببساطة في المواجهة والمبادرة، فليس عيبا أن تهزم في المعركة، لكن العيب الكبير أن لا تدخل المعركة ابتداء، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: “رضى الناس غاية لا تدرك” وليس إلى السلامة منهم سبيل، فعليك بما ينفعك.

وفي خضم حديثنا هذا لا ننسى أن للعلاقات الاجتماعية دور مهم في تحقيق الذات، فالأنانية مرض خطير يكبح التطور الذاتي، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، ونستشف من هذا الحديث أهمية التعاون مع الآخر في سبيل البناء والترقي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وهو في سعيه لتحقيق ذاته سيحتاج للآخرين حتما، هذا لأن الكمال لله وحده والنقص متمكن من جملة البشر.

في الختام، نقول: إن الطريق طويل وممتلئ بالأشواك والمطبات، وهذا يحتم علينا أن نتسلح بسلاح العلم والعمل قال الله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وقال رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.))

المصادر:
.Vers une psychologie de l’Etre, Abraham Maslow

1xbet casino siteleri bahis siteleri