قراءة في رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني

0 15٬157

لا يمكن قراءة الأدب الفلسطيني دون الوقوف عند هذا الهرم الأدبي، المبدع غسان كنفاني حتى غدا اسمه رديفًا للقضية الفلسطينية، أمثال درويش وسامح القاسم في الشعر وغيرهما، كان كنفاني بذكائه المتميز يجسد القضية في شخوص، ويقف وراءهم وينطقهم بما يريد، غسان كنفاني كان أسطورة فعلًا، استطاع من خلال أعماله الرائدة أن يخلد اسمه بين أساطين الأدب الفلسطيني، وذلك نظرًا لقدراته الإبداعية، في نقل القضية من مواقف وكلمات، إلى شخوص وأرواح تعيش حتى تجعل القارئ يعايش الحدث وكأنه شاهد عليه.




عرفت كتابات كنفاني بأدب ما بعد النكبة، خاصة في رائعته «عائد إلى حيفا» رواية تستحق الحفظ وليس القراءة فقط، في أقل من 100 صفحة من الحجم الصغير، استطاع أن ينقل للقارئ، واقع قضية فلسطين الجريح، والتي ربما تحتاج إلى أسفار حتى يتم شرحها، لكن غسان بذوقه الأدبي الراقي، وأسلوبه الفني الجميل، وحنكته الأدبية استطاع أن يشخص القضية في شخوص، ويقف وراء الستار، ويحرك تلك الدمى مع مصاحبة صوته لها، ينطقها بما يشاء، وكأنه مدرب سيرك محترف، يجعلك تصدق فعلًا عبر الكلمات وكأنك تشاهد تلك المآسي.

ألم الفراق وحلم العودة، فراق لم يكن من جنس ما نعرف بل كان فراقًا خاصًا، ربما لا يستطيع الواحد منا استشعار هذا الإحساس ما دام لم يجربه، إنه فراق الوطن، يعني فقدان الهوية، وفقدان الذاكرة ليست هذه الذاكرة المؤقتة التي نحملها في قلوبنا، بل تلك الذاكرة الجماعية التي بقينا نسجل فيها أحداث تاريخنا منذ الأزل، في لمحة البصر نصبح مشردين عبر البحر، عابرين نحو المجهول، لا نعرف ما وجهتنا ولا ما ينتظرنا، بينما من كتب عليهم الشتات، يصبحون بمأوى ونحن نصبح مشردين.

سعيد س هو بطل الرواية، سعيد س ليس شخصًا كما تعتقد لأول وهلة بل هو جيل، جيل حرم من هوية لعشرين سنة، جيل حرم من تنفسه لهواء وطنه عشرين سنة، جيل ذاق طعم مرارة الحياة عشرين سنة، جيل ظل يحلم بالعودة عشرين سنة، جيل ترك متاعه وكل ما يخصه حتى أبناءه وفر هاربًا نحو اللا شيء، هكذا يقولون، سعيد س والذي هو جيل لم يفر كما كان يعتقد ولا زال اليوم الكثير يصدق ذلك، كيف يفر ويترك فلذة كبده الذي لم يتجاوز الخمسة أشهر، هذا الوليد الذي يرمز إلى جيل جديد، جيل سينشأ بين أحضان المغتصب، وسيتنكر لآبائه وأجداده! بل هو لم يعرف غير هذا المغتصب، أليس هو من آواه وتحمل مشاق تربيته وتعليمه، أليس هو من تحمل كفالته وسهر على حمايته من كل ما يضره، وكيف سيعترف لأبيه – سعيد س- وهو قد فر دون أن يحاول حتى الرجوع وإلقاء نظرة أخيرة على بيته ربما كان يستطيع إيجاد ولده، أليس هذا ما قاله خلدون أو دوف لأبيه عندما عاد ليراه بعد عشرين عامًا!

لكن سعيد س الذي يمثل الجيل الذي خرج مرغومًا عن أنفه، لم يفر ولم يخف، بل هو حاول حتى يئس من الرجوع إلى بيته، لكن قوة الغاصب كانت له بالمرصاد، منعته حتى من الرجوع لأخذ ربما حذائه الذي تركه، أو حتى إلقاء آخر نظرة على منزله، هذا الجيل الذي خرج ظلت فلسطين حية في ذاكرته، أو نقول ظلت ذاكرته الجماعية خالدة في ذهنه، قبل أن يفاجأ عندما أتيحت له فرصة الدخول ربما كسائح بعد عشرين عامًا، ليجد أن هذه الذاكرة تنكرت له، هذه الذاكرة التي ظل يحلم بها طوال عشرين عامًا، كيف أضحت أوهامًا وتلاشت كالسراب.




لكنه غير آسف على حمله لآلامها وآمال العودة إليها، ربما ذاك الجيل قد أدى ما عليه، لكن هل كان يحق لخلدون أو دوف القبول بهذا الوضع؟ والانخراط في جيش العدو ومحاربة آبائه وأجداده! لمجرد أنهم وقعوا ضحية احتلال غاصب، ربما يكون لحجج هذا الجيل وجهة نظر، فهم نشؤوا ولم يعرفوا غير الوجه الرحيم لهذا العدو، فلم يكن باستطاعتهم غير الردوخ له والاستسلام لأوامره، والانقياد لآرائه وأفكاره التي يمليها.

سعيد س غادر فلسطين مسلوبًا كل شيء، لكنه عاد بسيارة، خسر وطنًا واكتسب سيارة! هكذا كان يعتقد، لكنه كان ولا زال يحمل بين جنباته بذرة من آمال العودة، لكنه تفاجأ لتلك العجوز يعايش التي تقطن منزله عندما فتحت له الباب، امرأة ترتدي قميصًا أزرق فيه نقط بيضاء! كانت هذه العجوز لا زالت تحتفظ بالمنزل كما هو، بأثاثه وفراشه، بل وحتى الصور المعلقة على الجدران، وكأنها تقول له نحن من يعرف الحفاظ على هذه الأشياء، أما أنتم فلا تستحقونها حتى وإن كانت تخصكم.


أليست هذه نفسها السياسة التي تنهجها إسرائيل ولا زالت، كان غسان كنفاني ذكيًا في اختياره لأبطال روايته، واختيار الأدوار المناسبة لكل واحد منهم، كنفاني كان يعي جيدًا سياسة هذه الأفعى، ولذلك استطاع تقديم صورة لها ولطرق التفافها على ذاكرة ذاك الشعب المهجر، حاول أن يبعث الأمل في نفوس المهجرين، عن طريق الحوار مع هذه العجوز، ربما قد ينتهي الحوار إلى إقناعها بما ارتكبه قومها، وبالتالي قرارها التخلي عن خلدون ومنزل خلدون «فلسطين»، وبذلك يكون مهجرو ثماني وأربعين، قد بعث فيهم الأمل باسترجاع أطفالهم وأراضيهم.

لكنه يذهب عنهم هذه اللذة، بعدما يصور كيف أن هذا الجيل الجديد قد رضي بالإقامة تحت هذا العدو الحنون، العدو الذي عرف كيف يلقنهم جرعة الولاء له، حتى أضحوا لا يستطيعون فراقه، بل ويرونه هو أحق بأرضهم من غيرهم، ولذلك فهم مستعدون للانخراط تحت لوائه والدفاع عنه، أليس ذلك ما قاله دوف لسعيد بعدما عاد ليراه، وما الإنسان إلا قضية أيهما خدمها ربحها! لذلك سيقتنع سعيد س بهذا المنطق لكنه لم يعد يؤنبه ضميره لعودته، بل حينها قرر اتخاذ القرار السليم، وهو انخراط ابنه في سلك المقاومة المسلحة، بعدما كان قد امتنع عن الإذن لابنه للالتحاق بها، لكنه بعد هذا الحوار اقتنع أن هذا هو الحل الأمثل لإعادة حيفا وما يتبعها.

هي هكذا رواية كنفاني، تكثيف كبير وتدقيق في المعنى، يستعمل الرموز ويجيد لغة الإشارة، لخص الموقف واستعرض الآراء، وفي الأخير خلص إلى تقديم الحل، المقاومة المسلحة لا غيرها.