لكأنني بُعِثتُ من الأموات ؟! (1)
قصة تدشين أول معالجة لمرض وراثي عند الإنسان عن طريق إضافة الجين الناقص!!
اجتمع حشد من الأطباء والممرضات وكأَّن على رؤوسهم الطير، في صمت مطبق وتوتر بالغ، وهم يرقبون الدكتور “ويلسون” وهو يحمل بحذر بالغ حقنة كبيرة مملوءة بـ سائل بني يشبه عصير الفواكه. اقترب من المريضة المممدة على السرير وهو يقول: يا سيدة فرانسين لا داعي للتوتر الآن فالمرحلة الصعبة قد مرت، ونحن الآن أمام إعطائك هذه الحقنة البسيطة!
برز من بطن المريضة، من القسم العلوي الأيمن قثطرة متصلة بأنبوب مطاطي، فعمد الدكتور ويلسون بحذر إلى وصل الحقنة التي بيده ذات اللون البني، والمحتوية على الخلاصة السحرية، بالأنبوب المطاطي، ليبدأ حقن المريضة فرانسين الكندية بالجرعة الأولى من خلاياها الكبدية بالذات والمعدلة بإدخال الجينات إليها.
بعد عدة أيام من الحقنة الثالثة كانت المريضة تشعر وكأن حياة جديدة قد دبت فيها، فهي تشعر للمرة الأولى أنها معافاة حقاً، وعندما سألها الطبيب كيف تجدين نفسك الآن؟ قالت كان مصيري الموت كأختي، إلا أنني أشعر الآن وكأنني بعثت من الأموات!!*
والآن ما هو الهام علمياً خلف هذه القصة؟ وما هو المرض الذي كانت تعاني منه؟ وما هي طبيعة هذه الحقنة الغامضة السحرية التي تم حقن المريضة فيها ولثلاث مرات؟ في أي مكان تم هذا؟ ما هي العتبة الجديدة والفضاءات المعرفية التي يرتادها العقل الإنساني الذي طَّوع الطب وآلته، لفك شفرة الوجود، وسر الخلق، ولغز الحياة الدفين؟
كانت الطفلة فرانسين الكندية، والتي تسكن في مقاطعة كيبك ذات الأكثرية الفرنسية، من الطالبات المجتهدات في الفصل. لفت نظرها وجود كتلة على المرفق مكان استنادها على الطاولة، وأشار طبيب العائلة باستئصال الورم المذكور وتَبينِ طبيعته، كانت نتيجة التحليل النسجي سليمة باستثناء وجود كمية غير عادية فيه من بلورات شحم الدم المعروف الكولسترول. إلا أن الطالبة فرانسين لاحظت مع تقدم السن أن هذه الأورام بدأت في الانتشار في أماكن متفرقة من البدن، وعندما تزوجت في الحادي والعشرين من العمر، دفع قلق زوجها أن يقوم بدراسة تفصيلية لوضعها الصحي، مما أوصلهم إلى اكتشاف أن العائلة كلها مصابة بفرط كولسترول الدم العائلي ويسمى اختصاراً (FAMILIAR HYPERCHOLESTERNAEMIA – FH)، حيث يصل مستوى الكولسترول إلى 600 – 800 ملغ في 100 سم مكعب من الدم، وهي ماتعادل ثلاث إلى أربعة أضعاف سقف ارتفاع الكولسترول عند الإنسان العادي. كانت فرانسين وأختها وأخاها الأصغر كلهم مصابون بهذا المرض الخطير.
هذا المرض موجب للعلاج والحمية والرياضة، حاولت فرنسين تقنين طعامها والامتناع عن تناول كل ما يشك بوجود زيادة دسم فيه بدون فائدة تذكر. والمعروف عن هذا المرض أنه يؤدي إلى انسداد الأوعية الدموية المبكر، بسبب كثافة الدهن في الدم وبالتالي الموت المبكر باحتشاء القلب عند الشباب صغار السن، وهو ما حصل لأختها حيث توفيت عن عمر يناهز الخمسة وعشرين عاماً، كذلك تعرض أخوها الصغير إلى نوبة احتشاء قلبي عام 1992 م، في حين اضطرت هي إلى إجراء عملية زرع شرايين في القلب بسبب بداية انسداد الشرايين التاجية. ولأن سن السيدة وصل إلى عتبة 41 عاما وهو الذي وصلت إليه السيدة فرانسين وهو مع هذا النوع من المرض يعتبر شيئاً نادراً للغاية، وضربت الرقم القياسي في التعمير، واعتبر الأطباء أن عمرها مسألة سنوات قليلة.
مقالات مرتبطة
في المشفى الجامعي لمدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، كانت السيدة ماريان جروسمان MARIAN GROSSMAN رئيسة قسم مخبر الجينات الجديد، قد استيقظت منذ الصباح الباكر، لأن عملاً على غاية الأهمية في انتظارها، قامت هي ومساعدتها السيدة كولين بيكر COLEEN BAKER في تحضير 1500 مزرعة جرثومية، هذه المرة ليست مزارع جرثومية بل هي خلايا كبدية.
في قاعة العمليات مع الصباح الباكر كان رئيس الجراحين ستيفن رابر STEVEN-RAPER ومساعده الدكتور هانزل ستيدمان HANSEL STEDMAN يقومون بمهمة صعبة هذه المرة في جراحة الكبد على المريضة فرنسين، حيث عليهم أن يغيروا الطريقة التقليدية في جراحة الكبد، فبضربة مشرط واحدة يجب أن تقتطع من الكبد قطعة بحجم قبضة اليد، ثم محاولة إرقاء النزف بعد ذلك، وهي خلاف الطريقة الروتينية في الجراحة التي تعتمد الإرقاء التدريجي بربط الأوعية النازفة، كل ذلك من أجل إعطاء الدكتور ويلسون المتوتر في القاعة حصته النفيسة، من خلايا كبدية حية، تذهب مبردةً مباشرةً إلى مختبره الثمين.
كان على الدكتور رابر مهمة أخرى؛ هي وضع قثطرة من نوع HECKMAN-CATHETER في الوريد البابي PORTAL VEIN القثطرة هي ذلك الأنبوب المطاطي اللين للغاية ويستخدم بغرض إدخاله إلى الوريد الذي يضخ ثلاثة أرباع الدم الصاعد والمغذي للكبد، بالإضافة إلى الشريان الكبدي الذي يحمل مسؤولية الربع الباقي.
كان الدكتور ويلسون من النوع الذي لا يطيق قاعة العمليات، أورائحة اللحم المحترق بالكاوي الكهربائي ولغط ماكينات التخدير؛ وينتظر بفارغ الصبر كنزه الكبير، الذي سرعان ماهُرِع به إلى مخبره في وعاء بلاستيكي مبرد، من خلال أروقة لا تنتهي وممرات لا تحصى بين البناء الضخم للمستشفى والمخبر.
بدأت السيدة جروسمان التي كانت تنتظر المحضر بفارغ الصبر، بتقطيع قطعة الكبد مجدداً بعد غسلها بمحلول الأنزيمات، حيث أمكن إيصال عملية التقطيع إلى حدود خمسة ملايين خلية لكل مستعمرة خلوية من المستعمرات الـ 1500.
وكان أمام كلٍ من السيدة جروسمان والسيدة بيكر أياماً حافلة بعد هذا، في عملٍ يستغرق مايزيد عن 15 ساعة عمل يومياً، في سبيل تحضير الخلايا للزرع الجيني.
بعد يومين من العناية المدللَّة والغذاء الشهي لخلايا الكبد، بهورمون النمو والسوائل المعدنية المختلفة والسكاكر الشهية بالإضافة الصادات الحيوية، امتدت يد فريق العمل إلى مستودعات سرية قد خبئ فيها كميات كبيرة من نوع خاص من الفيروسات المجهزة لإنجاز المرحلة الثانية من العمل.
*يراجع في هذا مجلة الشبيجل الألمانية واسعة الانتشار عن الصحفي الأمريكي والمعلق العلمي ريك وايس – مجلة الشبيجل عدد 19 عام 1994 م. ص ( 231 ).