لماذا انهار جدار برلين ولم يفتح معبر زوج بغال؟

2٬557

يقال: إن متعة السفر أن تكون في السفر، لكن السفر إلى ألمانيا له متعة خاصة لا يمكن أن يشاركه فيها سفر إلى دولة أخرى، ذلك أن هذه الدولة نجحت في أن تأسر ألباب الكثيرين، وبخاصة في هذا المنطقة من العالم الذي نعيش فيه. لا أريد أن أستبق الأحداث، لكن جريا على عادتي في التوثيق بالكتابة لكل الأسفار التي أقوم بها، فهذا المقال سأتناول فيه  بعض الأفكار والخواطر بمناسبة زيارة قمت بها لبرلين في الأسبوع الماضي.
وفي الواقع فهذه الزيارة الثانية لي إلى ألمانيا، حيث كانت الأولى في سنة 2011، وكانت بالضبط  إلى مدينة فرانكفورت.  كنت حينها في بلجيكا لإتمام  تخصصي في الجراحة، انتهزت تلك الفرصة لزيارة ألمانيا، وبالضبط لبعض أفراد عائلتي في مدينة فرانكفورت، وكانت تلك أول مرة أزور ألمانيا. ولا زلت أتذكر ذهابي من بروكسيل لمدينة فرانكفورت. ففي طريقي إلى ألمانيا، لاحظت أن الهوة العمرانية بين البلدين كبيرة بشكل ملحوظ، بدت لي ألمانيا بلداً عظيما وقوة كبيرة بين بلدان الاتحاد الأوروبي. والحق أن ملاحظتي تلك كانت في محلها، فتلك حقيقة لا تخطئها عين من زار هذه الدولة.  ويكفيك دليلا على ذلك أن تعلم أن معظم السيارات الفاخرة هي من صنع هذه الدولة، من مثل: BMW، وَ Audi، وMercedes و porsche وغيرها من أنواع السيارات الفاخرة. كما أن شركات عالمية مشهورة، يعرفها الناس من كل أنحاء العالم، كـ Adidas وBosch، و Siemens، وBraun، وDHL، وAllianz، وهي كلها شركات ألمانية وذات صيت ونفوذ عالمي.
وبالإضافة إلى ما سبق، فألمانيا دولة حاضرة في كل المجالات، وعلى رأسها المجال الرياضي، فإنها تأهلت إلى نهائيات كأس العالم في عديد المرات، واستطاعت الفوز بالكأس العالمية لأكثر من مرة في تاريخها، حيث فازت بأربع نسخ منها، آخر في البرازيل سنة 2014. وألمانيا دولة حاضرة بقوة في المحافل الدولية السياسية والاقتصادية، وذات قرار مستقل ومؤثر، فهي من بين الدول الخمس الأكثر تصنيعا في العالم، كما أن قائدة هذه الدولة حاليا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل متواجدة في كل المحافل التي تصدر عنها قرارات حاسمة على مستوى العالم، وهلم جرا من المؤشرات والدلائل، ألا يكفي ذلك كله دليلا على مكانة ألمانيا بوصفها دولة عظمى في عالمنا اليوم؟ !
إذن فهذه الزيارة هي الثانية لألمانيا، لكنها الأولى للعاصمة برلين. بعد وصولي، بدأت مباشرة بزيارة منطقة حائط برلين، باعتبار الرمزية التاريخية التي يشتهر بها: انهيار الاتحاد السوفياتي رسميا، الوحدة بين الألمانتين الغربية والشرقية، كنتُ متعجلا للغاية لزيارته، وتملكني شعور أشبه بذلك الشعور الذي يعتري الأطفال، حين يكونون على القرب من اختبار شيء في الواقع، بعد أن ظلوا مدة من الزمن، يسمعون عنه ويتخيلونه فقط.
وبغض النظر عن منجزات ألمانيا العلمية وتراثها الفلسفي الذين نعرفهما جميعا، فإن وضع ألمانيا في القرن العشرين كان عصيبا جدا، وعاشت قرنا كثير التقلبات والتكاليف، خسرت فيه حربين عالميتين، وكُلِّفت سدادَ تكاليف باهظة أنهكت اقتصادها، وفرضت عليها بنود شلّت جيشها وصناعتها العسكرية لعقود من الزمن، كما أنها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في سنة 1945 قُسّمت إلى قسمين غربية في صف الحلفاء، وشرقية تخضع لسيطرة الاتحاد السوفياتي، وظلت هي محور المناوشات بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة.
صحيح أن ألمانيا الغربية كانت أفضل حالاً، وأهدى سبيلا من نظيرتها الشرقية. ولأجل ذلك كان الألمان من برلين الشرقية يهاجرون سرا إلى برلين الغربية، هروبا من ديكتاتورية الاتحاد السوفياتي والقبضة الأمنية، وبحثا عن الحرية والاستقلال والأمن، خاصة أن ألمانيا الغربية كانت بدأت خطوات متقدمة في سبيل تعزيز الديمقراطية، بعد تأسيس ما سمي بألمانيا الفدرالية.
قصة هذا البلد في النصف الثاني من القرن الماضي ملهمة جدا، فقد خرجت ألمانيا منهزمة في الحرب العالمية الثانية في سنة 1945، وهي الحرب التي حصدت خمسة وخمسين ضحية، ثم بقيت بؤرة للمناوشات بين المعسكرين الشرقي والغربي، كان من نتائج تلك المناوشات بناء حائط برلين سنة 1961، للحد من هروب الناس من المنطقة الشرقية إلى المنطقة الغربية، وظل هذا الحائط لمدة ثمان وعشرين سنة ليسقط في 1989، ولم يمض على سقوطه إلا سنتان حتى تبعه الاتحاد السوفياتي في السقوط، ليبدأ العالم مرحلة جديدة أُعلن فيه عن نهاية السرديات الكبرى في العالم، وانبرى المفكرون والمنظرون لرسم سمات هذا العالم الجديد، ومن أشهرهم صمويل هانتينغتون الذي يذهب في كتابه “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد” إلى أن الصراعات بين الدول في المستقبل سوف تكون ثقافية حضارية، ولن تكون سياسة اقتصادية؛ في حين ذهب آخرون إلى التبشير بنهاية التاريخ كما فعل فوكوياما، إذ اعتبر أن النظام الليبرالي هو أفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية، ومن تم فلن يكون هناك جديد على هذا المستوى ! نعم هكذا: لنُقبر حلم الأجيال المقبلة، إذن، ولنصادر حقها في أن تُبدع النظام السياسي والاقتصادي الذي يلائمها، ولنُعلنْ نهاية التاريخ؛ يا لها من وقاحة !
قلت في  نفسي: كيف لهذه الدولة التي كانت خرابا في سنة 1945، وظلت رهينة للمناوشات بين المعسكرين الغربي والشرقي لما يزيد على أربعين سنة، أن تصبح بعد ذلك من أقوى الدول الصناعية في العالم؟ !
في محاولة للتفسير، خطر لي أن السبب قد يرجع إلى أن هذه الأزمات والصدمات التي تمر بها الأمم، أحيانا، تكون عاملا محفزا لبذل أقوى الجهود لتحسين وضعيتها، لأنها ببساطة ذاقت الويلات، وعرفت معنى أن تكون ضعيفا مهانا بين الأمم، فيترسخ لديها أنها ما لم تكن قوية، وما لم تكسب احترام الجميع، فإنها من الممكن أن تعود، في أي وقت، للوقوع في مثل ما وقعت فيه في الماضي، وقد تجرعت ألمانيا  من كل ذلك ما يكفيها لتتعلم الدرس بعد خسارتين في حربين عالميتين.
غير أن الأكثر إلهاما في القضية الألمانية أنها علّمت أوربا كلها، خاصة الدول التي كان لها تاريخ استعماري، أنه لا يمكن أن تعود لدورها الريادي، ما لم تتوحّد، وهذا الذي حدث بالفعل. حيث كان سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي لاحقا، محفزا لضخ دماء جديدة في الاتحاد الأوروبي.
إن نظرة سريعة في تاريخ نشأة وتطور الاتحاد الأوربي يبرز لنا هذا، ففي 1951 تأسست الجماعة الأوربية للحديد والفحم، وضمت ست دول هي ألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ؛ ثم تحولت إلى السوق الأوربية المشتركة في الستينيات بعد إلغاء التعريفة الجمركية بين تلك الدول، ما أسهم في ارتفاع التبادل التجاري بينها، وهو ما شجع المملكة المتحدة للانضمام إلى هذه السوق في سبعينات القرن الماضي، تبعتها دول أخرى كالدانمارك، وفي سنة 1979 وقع أول انتخاب للبرلمان الأوروبي، ليتحول هذا التكتل تدريجيا إلى ما يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي بعد فتح السوق الأوروبية الموحدة، في سنة 1992، ثم اعتماد الأورو كعملة موحدة في 2002، وهو التكتل الذي يضم اليوم 28 دولة، وهو يأتي في الدرجة الثانية في العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، بعد الصين.
فألمانيا ألهمت دول أوروبا أن لا بديل عن الوحدة، وأن لا سبيل إلى استعادة مجدها التليد، والذي كان دزء منه مؤسسا على استعمار الشعوب الأخرى، إلا بالوحدة، بدونها لا يمكن منافسة الصين والولايات المتحدة واليابان. رمزية هذه الوحدة تجلت بشكل بارز في انهيار حائط برلين، حيث تحولت ألمانيا بعده إلى دولة قوية صناعيا.
طبعا ولادة هذا الاتحاد لم تكن فقط اتعاظا واعتبارا بالحالة الألمانية، لكنها أيضا كانت نتيجة محن وكوارث وحروب وصراعات في الماضي، تعلمت منها هذه الدول أنه ما من سبيل إلى التقدم وتحقيق نتائج مرضية اقتصاديا وسياسيا وأمنيا ما لم يكن هناك تعاون بين الدول، ولا يمكن أن يعم السلام إلا إذا كانت الدول التي من المحتمل أن تنشأ بينها حروب أن تكون كلها داخلة في اتحاد يجعلها تدافع بالصوت الواحد عن مصالحها بطرق ودية وسلمية، ولها رؤية موحدة ومصالح مشتركة، وسوق استهلاكية كبيرة، وهو ما تحقق فعلا، حيث إن السوق الأوروبية تضم ما يزيد على 510 مليون مستهلك، سوق كبيرة، تستطيع أن تنافس دولا عملاقة مثل الصين والهند والولايات المتحدة وروسيا.
نعم، ألمانيا هي الدول الأقوى في هذا الاتحاد، خاصة بعد إعلان الممكلة المتحدة رغبتها في الانسحاب، وألمانيا بخلاف بريطانيا متشبثة جدا بهذا الاتحاد، فهي تعلم جيدا أنه لا يمكن مواجهة اقتصاديات عملاقة كالصين واليابان والولايات المتحدة بسوق استهلاكية صغيرة كالسوق الاستهلاكية الألمانية التي لا يزيد عدد سكانها على 83 مليون نسمة ! ولذلك تعمل على ترسيخ وتقوية هذا الاتحاد، ومن بين ما أثار انتباهي في زيارتي لبرلين، ما سموه بــThe european union experience ، وهو مكان تأتي إليه، وتجلس فوق كرسي، وكأنك في البرلمان الأوروبي حقيقة، وتشاهد فيلما وثائقيا عن الاتحاد الأوربي، يبين كيف يتم التصويت على القوانين في الاتحاد الأوروبي، وكيف تجري المناقشات قبل التصويت. والهدف من هذا كله تعزيز الشعور بالانتماء إلى هذا التكتل، فضلا عن التعريف بمراحل نشأته وتطوره، والصعوبات التي واجهته، وكيف تم تجاوزها.
إن تعزيز الشعور بالانتماء لهذا الاتحاد يجعل مواطنا ألمانيا ينظر إلى بلدان أخرى كفرنسا وبلجيكا وغيرهما وكأنها جزء من بلده، بل كمدينة من بلده، فيصبح المجموع أهم الجزء، ويكون التفكير في الكل مقدماً على التفكير في الجزء.
ولأنني مهتم بالمتحف والفنون، فإنني حرصت على زيارة النصب التذكاري الخاص بحائط برلين: the Berlin wall memorial، والذي يهدف إلى حفظ هذا الحدث في ذاكرة الألمانيين، حتى يكونوا دائما مستحضرين للصعوبات التي مرت منها الأمة الألمانية، وليعرفوا قيمة التضحيات التي بذلت من أجل أن ينعموا بما ينعمون به اليوم.

إن قصة سقوط حائط برلين وما رافقه من أحداث تبين أن التقدم الذي وصلت إليه أوروبا اليوم كان بفضل الوعي الذي تتمتع به شعوبها. نعم، صحيح أن جزءا من التقدم في البنيات التحتية والرفاه الذي حققته بعض دول الاتحاد الأوروبي كان على حساب نهب ثروات دول وشعوب أخرى، لكنّ هذه الشعوب تعرف كيف تضحي، وكيف تنزع حريتها من طغاتها، فقبل سقوط حائط برلين، تم تسجيل 37 محاولة فردية كانت تهدف إلى تفجير الحائط، ومات أكثر من مائة وثمانية وثلاثين شخصا، وأكثر من خمسة آلاف عملية هروب ناجحة، بالإضافة إلى العديد من المظاهرات التي تناهض بقاء هذا الحائط الذي فرق عائلات عدة، وشتت شمل ألمانيا، غير أن الإنسان الذي يحلم لا خوف عليه، بقي حلم الوحدة قائما، منذ بناء الحائط إلى أن تحقق بسقوط الحائط, بعد عمل دؤوب وتضحيات أتت أكلها في النهاية.
والذي ينبغي أن نعيه، نحن في العالم الثالث، هو أن ألمانيا كانت مستعدة للانطلاق قبل سقوط حائط برلين، فلما سقط كانت الظروف مواتية للانطلاق الاقتصادي للدولة الألمانية، وهنا نستحضر مقولة مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار كنموذج تفسيري لهذه الحالة، فكما أن تخلفَ دولٍ واستعمارَها يرجع إلى قابليتها للاستعمار حسب بن نبي، كذلك التقدم، إذا كانت القابلية لهذا التقدم مترسخة في دماء شعب أو أمة ما، فإنها تستطيع أن تتجاوز الصعوبات، كائنة ما كانت. فقارة أوروبا مرت من فترات حرجة في تاريخها: سنوات ظلامـ، شتات، حروب، استبداد، لكنها استطاعت الخروج من ذلك كله، ويمكن أن نزعم أن ما تعيشه اليوم ما هو إلا نتيجة دروس مستخلصة من ذلك الماضي. وهذا ينطبق على اليابان بدرجة ما أيضا، لم تعد اليابان تقبل أن تكون جزءا من توتر ما قد يؤول إلى حرب، لذلك تبتعد عن كل التوترات في العالم، قد استوعبت أن لا خير يأتي من الحرب، وكذلك أوربا، أدركت أن لا خير يُرجى من التشتت والتعنت، فتوجهت إلى الاتحاد وتوحيد الرؤى والجهود.
ومن أسف، نحن مررنا من مراحل ومحطات تاريخية لا تقل حرجا عن ما عاشته تلك الدول، لكننا لم نتأهّل لأخذ الدروس والعبر من ذلك، لم نستفد من التجربة الاستعمارية، خرج الاستعمار وكأنه لم يخرج، لم يحصل أي انتقال جذري وجوهري ملموس في البلاد، ظلت التركيبة السياسية والاقتصادية كما كانت، لا نجد أي حرج في أن نكون ضعفاء نتذيل قوائم الدول في كل ما هو إيجابي، ونتزعمها في كل ما هو سلبي، لا نجد أية غضاضة في أن نظل دوما تابعين ومفتقرين إلى حماية الغير لنا، حماية باهظة الثمن من دون شك، تعايشنا مع حالة الضعف، وأصبحنا لا نرى من ضرورة أصلا في بذل الجهود لكسب احترام العالم، وكيف يمكن أن يتغير مَن لا يرى ضرورة التغير أصلا؟ طالما أنه يرى وضعه غير الطبيعي الذي يعيشه طبيعيا !
حين كنت أتأمل في صور العائلات المشتتة المرفوعة النصب التذكاري لحائط برلين، وكيف كانوا يتبادلون التحايا من بعيد، تبادر إلى ذهني ما شاهدته في زيارة سابقة للحدود المغربية الجزائرية؛ الفرق الوحيد أنني هناك في ألمانيا رأيت ذلك في صورٍ توثق للحظة تاريخية تم تجاوزها، في حين أنه عندنا لا يزال ذلك وضعا قائما، ولا تلوح في الأفق أية ملامح لفتح الحدود وتجاوز هذا المشكل، ويبدو أن الأمر يحتاج إلى عمل فكري ومدني يُقرّب الشعبين أكثر، ويضع القيادة في موقف حرج يفرض عليها أن تتصرف بما تفرضه إرادة شعوبها، ومن المؤكد أن هذا لن يحصل بتصريحات غير مدروسة، ولا ببيانات غاضبة توبخ تلك التصريحات بدعوى رعونتها وتهورها.
ومرة أخرى يسعفنا مالك بن نبي في التفسير انطلاقا من مقولته حول القابلية للاستعمار، لأن الأمر كله يمكن إرجاعها إلى مقولته، ليست لدينا القابلية لإسقاط هذه الأوهام، أوهام الحدود الفاصلة بين شعبين يجمع بينهما كل شيء، ولا يفرق بينهما إلا القرار السياسي في المركز. إن القوم لم يستطيعوا أن يفهموا أن الوحدة وتظافر الجهود هي السبيل الوحيد السالكة إلى الاستقرار وإلى نمو اقتصادي حقيقي، ومن ثم تحقيق المزيد من الإنجازات للشعبين الشقيقين.
ينبغي لأصحاب القرار أن يتيقنوا أن الاستبلاد والاستحمار والتجهيل والتفقير لن يضمنوا لهم مقاما طويلا في الرفاه والسلطة، وأن الخلاص الفردي في هذا العالم، الذي أصبح قرية صغيرة، لم يعد ممكنا، لأننا ما لم يكن الجميع بخير فلن يكون الفرد لوحده كذلك. إن هذا النوع من الحروب، أعني حروب التجهيل والاستبلاد والتفقير التي تمارس على شعوبنا، خطورتها في كونها لا تخلف دماء وراءها، هي تتغلغل في العمق، وتعمل بدون أن تحدث ضجيجا، وهي أشبه بالسرطان، أو بالموت البطيء، وهي تقتل فيك كل ما يجعلك إنسانا جديرا بالاحترام، فتصير لديك القابلية لكل شيء، بما في ذلك الوشاية بحارك وأخيك مقابل عوض من الدنيا قليل.
حرب التجهيل والاستبلاد تختلس من الناس أحلامهم الحقيقية، ليصير منتهى حلم الفرد أن يستطيع العيش، وأن يجد مأوىً يأوي إليه، وأن يجد مأكلا ومشربا يكفيه، ولا يهمه بعد ذلك شيء، ومن ثم يكون قد تناول حقا درجة إنسانيته، وصار شيئا آخر، يأكل ويشرب، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.