غزة تجبرنا على فهم دروس التاريخ
من الطبيعي أن نشعر بالغضب من أنفسنا، ونحن نستشعر من أنفسنا فتوراً في التفاعل والتضامن مع الأبرياء في قطاع غزة، وهم يُقاسون ويلات الحرب والجوع والبرد والتشرد في آن واحد. من الطبيعي أن يغضب منا إخواننا في غزة، وهم يروننا نغفُل ونتغافل عنهم كل يوم، وبشكل مطرد؛ وهم يشاهدوننا نعيش حياةً طبيعيةً، وكأن لا شيء غير طبيعي يحدث في العالم؛ وهم يُشاهدوننا نُعطي أشياء تافهة أولوية الصدارة في انشغالاتنا ومشاعرنا، وكأنهم لا يُقتّلون ولا يُذبحون كل يوم. ومن الطبيعي أن لا يَتوقف العدو عن عدوانه، ولا المستكبر عن استكباره، ولا الطاغي عن طغيانه، طالما نحن غير قادرين على صده وإيقافه، بل ولا نبدو أننا مهتمون بذلك أصلا.
وفي ظل كل هذه المعطيات والظروف، وبالأخذ بعين الاعتبار أن الداعمين لعدوان الكيان الصهيوني، خلافا لنا، لا يتوقفون عن دعمهم اللامشروط لعدوانه وطغيانه، في ظل هذا، يبقى الشعور بقرب الخسارة، وسقوط غزة سقوطا مدويا مبررا، لا يلام صاحبه. وهو سقوط لا قدر الله سيفتح الباب للأطماع الإسرائيلية في دول عربية أخرى. وما الذي سيمنعها، إذا كنا لم نُقْدِم على أية خطوة حقيقية لوقف العدوان، ولم نتخذ أي موقف حقيقي من شأنه أن يغير حقيقة الميدان في غزة؟ وطالما لم نفعل ذلك مع فلسطين، بلد القدس الشريف ومسرى النبي الأمين، فمن المؤكد أننا لن نفعله مع أية دولة أخرى.
والشعور بالعجز، المصاحب لتوقع الهزيمة القريبة، مؤلم لكل ذي ضمير حي. ولا يُخفف عليه إلا أحداث التاريخ الإسلامي، الذي عرف مراحل مضيئة، ما زالت تصلح لاستلهام الدروس والعبر منها. ولأن العدوان على غزة، لا يُختزل جوهره فقط في حرب على منطقة جغرافية، بل يحمل في طياته “ضعف أمة”، وهوانها بين الأمم، فإننا نحتاج إلى أن نعود إلى لحظات تاريخية شبيهة به من حيث الشكل، ولكنها معاكسة له من حيث الجوهر. وأقصد ها هنا بالتحديد لحظة انقلاب عسكري أسقط امبراطوريتين كبيرتين في مدة وجيزة للغاية، لا تتجاوز سنتين، قام به المسلمون في مرحلة من إرساء أركان دولتهم، لم تكن فيها تتفوق على غيرها في العدة والعتاد.
يتمثل الشق الأول من هذا الانقلاب العسكري بأبعاد حضارية في معركة اليرموك التي دامت لستة أيام، وانتصر فيها المسلمون على الإمبراطورية البيزنطية، بعد أربع سنوات من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تحت قيادة خالد بن الوليد في عهد خلافة عمر بن الخطاب. وهي المعركة التي دارت وقائعها بقرب نهر اليرموك، الذي يعد اليوم من روافد المملكة الهاشمية الأردن، قرب الحدود مع فلسطين. وكان من النتائج الكبيرة لهذه المعركة أنْ تم ضم الشام إلى الدولة الإسلامية الناشئة.
وأما الشق الثاني منه فقد تمثل في معركة الأيام الخمسة المعروفة بمعركة نهاوند، ست سنوات بعد ذلك، والتي وقعت في خلافة عمر أيضا، بقيادة النعمان بن مقرن. وانتهت بانتصار كاسح للمسلمين، على الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وتحقيق امتداد حضاري وعسكري للمسلمين في أرجاء واسعة من بلاد ما وراء النهر. وما تلى ذلك كله معروف، تاريخ زاخر من الرخاء والعلوم والمدنية، فضلا عن دخول الناس في الإسلام بالآلاف، وانخراطهم في سلكه، ودبّهم عن حماه. ولعل من أهم ما ميز الإسلام على طول تاريخه أنه كان في حالة امتداد مستمرة، ولم يعرف في لحظة من لحظاته تناقصا أو تراجعا عدديا، كما أن صعود الدولة الإسلامية كان مطردا، ولم تعرف هذا الضعف الشديد إلا في القرنين الأخيرين.
وحين يعود المرء إلى قراءة أحداث هذه المرحلة من تاريخ المسلمين، فإنه لا بد وأن يتساءل: ما هي المنظومة الأخلاقية التي استند إليها المسلمون في ذلك الوقت، ومعظمهم من صحابة الرسول، بحيث لم يُخوفهم العدو بكثرة عدده، وقوة عتاده؟ وهو ما مكنهم من أن يهزموه في ذلك الوقت الوجيز. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن هناك تشابها بين صلابة إيمان هؤلاء في ذلك الوقت وقوته يقينهم في النصر، وأن الله ناصرهم ومعينهم، وبين ما نشاهده اليوم من صمود الأبطال في القطاع، ويقينهم بأن الله لن يخيبهم، وأن العاقبة ستكون لهم. وإذ نقول هذا، فإننا لسنا نتجاهل شدة ألمهم، وقسوة ما يعانونه، ولا نصادر إنسانيتهم وضعفهم الإنساني الذي لا يُنكر.
بالإضافة إلى عامل اليقين العقدي والإيمان بالنصر، فإن دراسة متأنية لوقائع المعركتين المشار إليهما تَكشف عن أسباب أخرى، قد تكون مفيدة في السياق الذي نعيشه هذه الأيام، وقد يكون من المفيد الحديث عنها، وهي:
-أولا، التوفر على معلومات دقيقة عن العدو، وهذا من التخطيط الاستراتيجي في الميدان؛ خاصة وأن النبي أخبرهم، بعد نزول سورة الروم، بأن هزيمة الروم ستكون على يد الفرس، ثم تليها هزيمة الفرس على يد الروم. فقد أوحي إلى الرسول الكريم بأن تقاتل القوتين وتضاربهما سيؤدي إلى إنهاك قواهما، مما يكون مناسبا معه الإعداد للمعركة مع هذا العدو، وهو ما كان خلال مدة تسع سنوات.
-ثانيا، اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالقدس، واقتداء الصحابة به من بعده، وإيمانهم بقدسيته، كونه أولى القبلتين وثالث الحرمين. فضلا عن الموقع الاستراتيجي للقدس، بحيث إن كل القوافل العالمية آنذاك كانت تمر عبر طريق القدس، الذي يربط أفريقيا بآسيا. وقد أدرك المسلمون آنذاك أن فتح القدس سيُعطي للدولة الإسلامية بعدا استراتيجيا عالميا.
ومن اللافت أن القدس تاريخ مسرى النبي كانت تحت إدارة يهودية مع الولاء والخضوع للحكم الفارسي الساساني. فقد كان اليهود متحالفين مع الإمبراطورية الفارسية، وتربطهم بها علاقات وطيدة واتفاقات مهمة، جعلتهم يتولون إدارة اليمن على سبيل المثال، نيابة عن السلطة المركزية الفارسية.
وعلى كل، فقد تجلى اهتمام النبي ببيت المقدس في تجهيزه لجيش أسامة بن زيد بن حارثة لقتال الروم الذين كانوا يُسيطرون على بلاد الشام، وقد كان عمر أسامة لا يتجاوز ثمان عشرة سنة، مما جعله محل طعن الكثير من المنافقين لحداثة سنه، بدعوى أنه لن يقدر على إدارة جيش في معركة كبيرة مثل المعركة مع الروم. لكن النبي حينها قال: “فأنفذوا بعث أسامة”. وقد كان ذلك في أواخر حياته، بل إن إرسال أسامة لقتال الروم في الشام كان آخر أمر استراتيجي في حياته صلى الله عليه وسلم، حيث أمره بأن يطأ البلقاء والداروم من أرض فلسطين، حسبما أورده بن إسحاق في سيرته. والبلقاء حاليا هي الأردن، والداروم هي دير البلح في غزة.
وقد استشعر الصحابة رضوان الله عليهم هذه العزيمة النبوية على فتح الشام قبل أن يُدركه الأجل، وإن كان قد أدركه قبل تحقيق مبتغاه. ولذلك صاروا على نهجه، ولم يُخالفوا أمره، مستحضرين كل الأبعاد التي تكتسيها تلك البلاد الدينية والاستراتيجية والعسكرية. فحقق الله على أيديهم فتح تلك البلدان، ليكون ذلك حدثا مصيريا في تاريخ البشرية.
وبعد؛
فلماذا الاهتمام بالكتابة عن هذه المفاهيم والتدوين حولها؟ إن جزءا من الجواب يكمن في أنها سائرة في طريقها للاندثار في وقت نحن في أمس الحاجة إلى هذه المنظومة الأخلاقية التي كانت وقود الصحابة، وبفضلها أطاحوا بجيوش مدججة بالعدة والعتاد في ذلك الوقت؛ وأما الجزء الآخر من الجواب فهو أننا نريد أن نوضح بأن جوهر الصراع في كل ما يجري هو بين نموذج أنتج الصهيونية، هو النموذج المادي، وهو نموذج يُسخر الإنسان لعبادة إنسان آخر، ويُقيم تمايزات بين الناس بحسب البلدان والألوان والأديان، ويدعي خلاف ذلك، وبين نموذج إيماني تحرري، يُحاول أن يجعل الإنسان متحررا من كل ما يقيده غير الخضوع لله تعالى.
نكتب عن هذه المفاهيم، لأنه إذا كان اليقين اليوم أصبح عملة نادرة، فإن اليقين في المنظومة الأخلاقية للمقاومة وهي الإسلام، ظل راسخا وثابتا. وقد أصبحت اليوم محط اهتمام الإنسان، وخاصة في دول الجنوب التي ما تزال أسيرة لأنواع شتى من الاستغلال والاستعمار. إن هذه المنظومة استطاعت أن تُلهم الكثيرين من حول العالم. وكيف لموقف إيماني قوي أن لا يُبهر؟ حين تشاهد أبا أو أما فقد كل أبنائه وزوجته. ثم يقول بيقين واطمئنان أن لا شيء حدث، إنما ابنه أو ابنته قد سبقاه إلى الجنة، وأنه راضٍ محتسب. بل كيف لا يُبهر موقف أب فقد كل أفراد عائلته ثم يُصر على الاستمرار في أداء رسالته الإعلامية، نصرة لشعبه ولمقاومته؟